ثلاث قواعد تمكننا من الوصول إلى حل نهائي للقضية.. والحيثيات ترشدنا لىسمات النظام المنشود
القراءة الشاملة دون اجتزاء تشرح كيفية التعامل مع حالة التقاطع بين مصالح المُلّاك والمستأجرين
لم تكتف المحكمة بنسف أسس تثبيت الأجرة بل تطرقت إلى أزمة الإسكان وغلو الأسعار
إذا لم تكن منتميا لأحد المعسكرين المتصارعين في قضية الإيجار القديم؛ المُلّاك والمستأجرين، فأغلب الظن أنك ستقع في حيرة أثناء سماع مداخلات ممثلي المُلّاك والمستأجرين في البرامج التليفزيونية ومنشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن كل طرف يحاول الترويج لعبارات بعينها من الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا مؤخرا بعدم دستورية تثبيت القيمة الإيجارية، مما يثير التساؤل عما إذا كان الحكم لصالح المالك بنسبة 100% أم أنه أيضا يراعي حقوق المستأجرين.
ويبذل البعض جهدا أكبر في “التجويد” على العبارات المجتزأة، بإضافات تمزج التحليل بالرأي وتخلطها بحيثيات أخرى خطّتها “الدستورية” في أحكام سابقة، مما يؤدي إلى تحميل الحكم بما ليس فيه من فرض اتجاه بعينه على الحكومة ومجلس النواب للتصرف في القضية. نرى ذلك في المطالبات المتسرعة بـ”تحرير العلاقة الإيجارية” أو “طرد المستأجرين” أو “الاكتفاء بزيادات بسيطة على الإيجارات المعمول بها حاليا”.
غير أن القراءة المتأنية للحكم توضح كيف سارت المحكمة على نهج متوازن ودقيق، على ضوء النصوص الدستورية، لمنع قراءة الحكم بصورة تعسفية أو للانحراف في تطبيقه لصالح طرف معين عن قصد أو بسبب فهم خاطئ للحيثيات، مما يؤدي إلى انتزاع الحكم من سياقه الدستوري والتشريعي والتاريخي الذي لا يمكن تجاوزه.
وربما كانت حالة الاجتزاء والاختزال هذه من دوافع رئيس مجلس النواب المستشار حنفي جبالي لتشكيل لجنة مشتركة لدراسة الحكم و”إجراء تحليل شامل لحيثياته بما يمكن المجلس من فهم وتقييم كل الجوانب المرتبطة بالإيجار القديم والتوصل لبدائل وحلول مناسبة لها” هذا من ناحية، ومن نواحٍ أخرى الاستماع لآراء مسئولين حكوميين وأساتذة قانون وعلم اجتماع وخبراء وجمع إحصاءات وبيانات “لضمان رسم رؤية متكاملة تجمع بين التحليل القانوني والمقاربة الاجتماعية”.
على أي قواعد سنبني الحل من أجل المستقبل؟
لا يمكننا الوصول إلى حل نهائي لهذا الملف دون البناء على ثلاث قواعد أساسية: الأولى ترتبط بالمبادئ الدستورية الحاكمة والمنظمة لحقوق الملكية والسكن وهي التي أمعن الحكم في إضاءتها وتفسيرها، والثانية تتعلق برصد الواقع وتحليله من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية والذي تدل عليه البيانات والإحصائيات المتاحة لدى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ووزارة الإسكان والمحليات وغيرها من الجهات التي تمتلك الوسائل البحثية الكافية.
قد يرى البعض أن القاعدتين سالفتي الذكر كافيتان للانطلاق، غير أن هناك قاعدة ثالثة مهمة وهي الإمكانيات الحكومية في الواقع العملي من أجهزة وكفاءات إدارية وخبرات للتقييم والتحليل والرقابة.
وإذا كاتت الدولة راغبة بحق في حسم هذا الملف بشكل نهائي، فينبغي تأسيس هذه القاعدة بتماسك ومتانة، مما يتيح توسيع منظور الحل ليشمل ملف الإيجار بكامل أقسامه.. قديم وجديد وسكني وتجاري وأشخاص طبيعية واعتبارية، سعيا لإحداث نقلة نوعية في سوق العقارات توازن بين نجاح الاستثمار وكرامة المأوى، وبين جني الأرباح ومعقولية الثمن.
وهذا بالضبط هو التوازن الذي تدعو حيثيات الحكم إلى توخيه عند إصلاح النظام القديم المهترئ.
مساران لتحليل القضية دستوريا
يرشد الحكم الدستوري الذي صدر برئاسة المستشار بولس فهمي، الحكومة والبرلمان إلى طريقة التعامل مع التقاطع بين حق الملكية الخاصة والعدالة الاجتماعية، فتمضي الحيثيات مشددة على أهمية كل منهما وخطورة الوصول إلى حالة خصومة كتلك القائمة بين المُلّاك والمستأجرين منذ عشرات السنين.
وإعلاء لشأن الملكية الخاصة يؤكد الحكم دورها في “صون الأمن الاجتماعي، وكفل حمايتها لكل فرد -وطنيا أو أجنبيا- ولم يُجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء وفي الحدود التي يقتضي تنظيمها، باعتبارها عائدة إلى جهد صاحبها الذي بذل من أجلها الوقت والعرق والمال وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضروريا لصونها…. مهيمنا عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها”.
وتنبيها لأهمية العدالة الاجتماعية من منظور دستوري؛ يوضح الحكم ضرورة “وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها وترابطهم فيما بينهم، ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلا يتفرقون بددا أو يتناحرون طمعا أو يتنابذون بغيا”.
وترى المحكمة إمكانية تحقيق التوازن بين المبدأين: “مفهوم العدالة الاجتماعية لا يناقض بالضرورة حق الملكية، ولا يجوز أن يكون عاصفا بفحواه، وعلى الأخص في نطاق العلائق الإيجارية التي تستمد مشروعيتها الدستورية من التوازن في الحقوق التي كفلها المشرع لأطرافها”.
ونجد المحكمة تصف بـ”اللغو” أي محاولة لفرض قيود جائرة على حق من الحقوق بما ينال من جدواه، وتبرير ذلك بوجود ضرورة أو وظيفة اجتماعية لتلك القيود، وهذا هو تحليلها الأخير للمبررات “الاجتماعية والاقتصادية” التي استندت إليها الدولة لسنوات طوال في تثبيت القيمة الإيجارية، وحرمان المالك من العائد العادل لاستثمار أملاكه.
الواقع تحت بصر القاضي الدستوري
وكان من الممكن أن تكتفي المحكمة بنسف أسس تثبيت الأجرة، لكننا نجدها تفتح بابا ذهبيا أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية للنفاذ منه إلى جوهر التوازن المنشود، بتطرقها إلى مواجهة أزمة الإسكان والحد من غلو الأسعارباعتبارها من المشاكل الوطنية التي من الواجب التصدي لها.
فتقول المحكمة بعبارات مهمة: “ولئن صح القول بأن مواجهة أزمة الإسكان والحد من غلوائها اقتضى أن تكون التشريعات الاستثنائية الصادرة دفعا لها، مترامية في زمن تطبيقها، فإنه يتعين النظر إليها دوما بأنها تشريعات طابعها التأقيت مهما استطال مداها، وأنها لا تمثل حلا دائما ونهائيا للمشكلات المترتبة على هذه الأزمة، بل يتعين دوما مراجعتها من أجل تحقيق التكافؤ بين مصالح أطراف العلاقات الإيجارية، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها إلا بقدر الظروف التي أملت وجودها”.
والقراءة المتأنية للفقرة السابقة تؤكد أهمية أمرين في نظر المحكمة الدستورية العليا: أولهما عمومي وهو ضرورة مراجعة التشريعات الاستثنائية والمؤقتة التي ظهرت في ظروف معينة لتحقيق مصالح المجتمع، وثانيهما خاص بقضية الإيجار ويتمثل في ضرورة إيجاد آلية منظمة للمراجعة الدورية لطبيعة العلاقات الإيجارية وقيمها المالية، بما يحول دون ترجيح مصلحة المستأجر على المالك أو العكس.
ويدعم الحكم هذه القراءة بفقرة أخرى مهمة: “إن تحديد أجرة هذه المباني يتعين دوما أن يتساند إلى ضوابط موضوعية تتوخى تحقيق التوازن بين طرفي العلاقة الإيجارية، فلا يمتنع المشرع عن التدخل، فيمكّن المؤجر من فرض قيمة إيجارية سمتها الغلو والشطط، استغلالا لحاجة المستأجر في أن يأوي إلى مسكن يعتصم به وذووه، تلبية لحاجة توجبها الكرامة الإنسانية، أو يهدر عائد استثمار الأموال التي أنفقت في قيمة الأرض والمباني المقامة عليها بثبات أجرتها، بخسا لذلك العائد، فيحيله عدما، بل يكون بين الأمرين قواما”.
أي أن المحكمة لم تقل إن “الاعتداء على الملكية الخاصة مخالف للشريعة الإسلامية” فقط، ولم تعلِ من شأن “الوظيفة الاجتماعية للدستور” فقط بل وضعت على كاهل المشرع مسئولية تحقيق التوازن بالتذكير بأن “السياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها بحيث لا تؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينهما” وبأن “السلطة التقديرية توجب المفاضلة بين بدائل متعددة، والترجيح من بينها لتحقيق المصالح المشروعة”.
الأمل في نظام جديد عادل.. لا مسكنات
والترجمة التشريعية الأمينة لكل ما سبق تتحقق بنظام جديد للإيجارات على مستوى الجمهورية، يتسم بالتوازن والقبول الاجتماعي، يشمل آلية واضحة وعادلة لتقييم القيم الإيجارية تتضمن مراجعة دورية لها، ولا تفرض على المالك نمطا معينا من التعاقد يغل يده عن التصرف في ممتلكاته، وتحمي محدودي الدخل والمستأجرين الفقراء من شطط الأسعار ومن الطرد المفاجئ، ويتيح فض المنازعات وديا ومن خلال المحليات والقضاء بما لا يزيد أعباء المُلّاك والمستأجرين معا.
وإذا توافرت الإرادة والهمّة؛ تستطيع مصر بإرثها التشريعي الثري وكفاءاتها ودراسة التجارب الأجنبية أن تقيم هذا النظام الشامل على أساس الأمن الاجتماعي، لطيّ صفحة الماضي، بدلا من إلقاء كرة اللهب للأجيال القادمة.