رسمت الأعراس الفلسطينية، ولم تكن يوماً قد عاشتها كما جسدتها على أقمشة لوحاتها، أضاءت اللوحات بالألوان المبهجة، والنباتات المزدهرة، والمنازل كاملة البُنيان، وكأنها يوما ما شاهدت المنازل التي قُصفت، فحاولت تصوير الحياة التي لم تعشها، والأجواء التي افتقدتها في مدينتها المحاصرة غزة، إنها الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت، صاحبة اللوحات الأكثر بهجة عن فلسطين المُحتلة.
فرغم ما تمنته في لوحاتها من حياة آمنة كان للواقع رأي آخر، وفرض بقساوته الحقيقة، فقد استشهدت هبة تحت أنقاض منزلها في غزة يوم 13 أكتوبر 2023، مع طفليها، بقصف من قوات الاحتلال الإسرائيلي، الذي حرمها من الحياة، وحرم العالم من فنها وأحلامها، وتمزقت أو تضررت ولطخت الدماء أغلب لوحاتها، إلا لوحتين فقط كانتا ناجيتين من هذه النهاية المأساوية، وهما جنين وأسدود، والتي أصبحتا حالياً ملك لكريستوفر (كريس) ويتمان، فما هي قصة نجاة آخر عملين يعبران عن أحلام هبة؟ وكيف انتقلتا من غزة إلى القدس الشرقية؟ ذلك ما يرويه كريس لـ”أخبار مصر”، أثناء توليه حالياً عرض لوحات هبة في معرض فني للجمهور.
2021.. اللقاء الأول
كانت تعاني هبة من نقص المواد الخاصة بالرسم، والخامات التي تحتاجها، لذلك استعانت بالفنانة التشكيلية هيا كعابنة لكي تستطيع الحصول على ما تحتاج، طلبت هيا من كريس أن يحضر لوازم هبة الفنية، “لأنه أصبح من الصعب العثور عليها في غزة بسبب الحصار”، والتقى الصديقان في يونيو 2021، وتحدثا كثيراً ثم أصبحا صديقين على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ويقول كريس: “أصبحت أتابع إنتاجها الفني بشغف منذ ذلك الحين”.
أصبح كريس يتابع كل ما تنشره هبة على صفحتها، ورأى اللوحة التي تحمل اسم جنين في أكتوبر 2021، وهو اسم مخيم للنازحين أُقيم عام 1953، ويقع في الجانب الغربي لمدينة جنين في أطراف مرج بن عامر، خطفته اللوحة وقرر طلبها من هبة.
ويقول كريس: “كان المخيم حينها يتعرض لهجمات منتظمة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وقد رأيت في هذا العمل الفني العديد من مميزات المُخيم، واستخدمت هبة الصبارة بشكل جيد للغاية؛ لذا طلبت من هبة شرائها على الفور، وبالفعل لقد أرسلتها عن طريق البريد الخاص واستلمتها بعد 3 أيام فقط”، وزينت اللوحة منزله في منطقة كفر عقب.
2023.. لن يكون هناك لقاء آخر
لم تكن اللوحة جنين آخر المطاف، فقد جذبت اللوحة التي حملت اسم أسدود كريس، وهي الاسم العربي لما يعرف اليوم بمدينة أشدود الإسرائيلية بعد أن تم إخلاء الفلسطينيين منها في أعقاب نكبة 1948، وتقع في شمال شرق غزة، وقرر كريس شرائها أيضاً من هبة، لذلك ذهب إلى غزة في 3 أكتوبر 2023، والتقى بها في فناء المدرسة، لكي يحصل على اللوحة.
يحكي كريس: “كانت هذه آخر مرة رأيت فيها هبة قبل الحرب بأيام قليلة، ذهبت إلى مدرستها لأشتري اللوحة، وكانت مشغولة في تدريس الفن للأطفال في مدرسة بالقرب من دوار الشهداء، جنوب مدينة غزة، وكان الوقت قصير لتجاذب بعض الأحاديث، وأهم شيء أتذكره أنني أردت أن التقط صورة معها، لأنني شعرت أنها سوف تصبح فنانة تشكيلية شهيرة يوماً ما، واعتقدت أنه سيكون من الرائع أن ألتقط صورة معها، لكن كان عليها العودة إلى الفصل سريعاً، لذلك قالت لي في المرة القادمة”.
بعد 10 أيام فقط من رؤية كريس، قُتلت زقوت في غارة جوية على منزلها في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة، وكانت تبلغ من العمر 39 عامًا، وقُتل معها اثنان من أطفالها، آدم ومحمود، ودُمرت معظم لوحاتها في المنزل.
يقول كريس، إن ما جذبه للوحة جنين هي الصبارة، بينما لوحة إسدود فهي أفضل لوحة رسمتها هبة على الإطلاق: “هذه اللوحة تصور القصص التي سمعتها هبة من أجدادها وخالاتها حول ما كانت عليه المدينة الساحلية قبل النكبة، وتعرض مشاهد مختلفة لذكرياتهم عن القرية وما تعنيه لهم، استخدام هبة للألوان في هذه اللوحة مذهل، أنا أحب كل شيء فيها، تمثل اللوحة الحنين إلى العودة والذكريات التي يحتفظ بها الفلسطينيون بعد كل هذه السنوات”.
لوحات لا تُقدر بثمن
نجت اللوحتان من الدمار المنتظر ورحلت صاحبتهما، وهما حاليًا يُعرضان في مكان مخصص للوحات القادمة من غزة تحت عنوان “هذا ليس معرضا”، المُقام في المتحف الفلسطيني في مدينة بيرزيت بالضفة الغربية المحتلة. وأوضح كريس: “ستبقى اللوحات في المتحف الفلسطيني حتى انتهاء الحرب، وبعد ذلك سوف يعودون إلى منزلي، لست متأكدًا مما سأفعله معهم، لا أريد أن أرسلهم للعرض حول العالم إلى متاحف لا أعرفها أو لا أرتاح لها، سمحت للمتحف الفلسطيني باستعارتهما لأنني أعرف الأشخاص الذين يديرونه وأثق بهم، لأن هذه القطع الفنية بالنسبة لي كانت لا تقدر بثمن قبل استشهاد هبة، والآن أصبحت لا تقدر بثمن على الإطلاق”.
ويعيش كريس في فلسطين منذ سنوات، جاء في الأصل للحصول على درجة الماجستير في الجامعة العبرية في القدس عام 2009، ثم بدأ العمل مع المنظمات غير الحكومية الفلسطينية في عام 2011، ولكن بعد أن أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي الرصاص عليه أثناء احتجاج في قرية النبي صالح، غادر فلسطين في يناير 2016.
وكان كريس حينها يحاول تسجيل فيديو للاحتجاجات، ولكن أُطلقت عليه قنبلة غاز مسيل للدموع معدنية من مسافة قريبة، “عندما أصابتني القنبلة مزقت جزءاً من فروة رأسي، فيما بعد عبرنا الحدود ودخلنا مجدل شمس، واشتبكنا مع القوات، لقد رشقنا الحجارة، فردوا علينا بإطلاق النار، وأُصبت برصاصة في ساقي”. وفي عام 2021 عاد كريس إلى فلسطين مرة أخرى، كممثل لمنظمة Medico International، وهي منظمة ألمانية غير حكومية لحقوق الإنسان ولها مكتب في فلسطين، وعن طبيعة عملها أوضح كريس: “نحن نعمل في مجال الصحة وحقوق الإنسان، ولدينا العديد من المشاريع في جميع أنحاء غزة والضفة الغربية و48، وأعيش في كفر عقب، أحد أحياء القدس الشرقية المحتلة، مع زوجتي دينا وطفلتنا الجميلة يافا”. وذكر كريس أثناء حديثه أنه يشارك حالياً في فيلم قصير، ينتجه فنان فلسطيني محلي عن هبة، مدته 7 دقائق، لم يستطع الإفصاح عن تفاصيله في الحديث لكن شارك بعض اللقطات منه معنا. الأجمل الذي حلمت به ولم يأتِ كُتبت الكثير من المقالات بعد استشهاد هبة حول أسلوبها الفني، وأرثاها الكثير من النُقاد، ومن بينهم الناقدة اللبنانية ميموزا العراوي، التي كتبت في 25 أكتوبر 2023، مقالاً لصحيفة العرب جاء فيه: “تبدو النساء الفلسطينيات في بعض لوحاتها بعيونهن الحزينة، ولكن هذا جلّ ما في الأمر لأن العرس الموعود بالمعنى المُطلق لم يغادر قلب ولا ذهن الفنانة ولا نساء لوحاتها، ورسمت المرأة الفلسطينية بأبهى حلتها ورسمتها كجزء من الطبيعة أو مع أطفالها وصديقاتها، رسمتها بصبارها وزيتونها وبرتقالها وبحرها وقمحها”.
من جانبها علقت ماجدة سعد الدين، الفنانة التشكيلية وأستاذ مساعد بالمعهد العالي للنقد الفني والحاصلة على دكتوراه الفلسفة في النقد الفني تخصص نقد تشكيلي، لـ”أخبار مصر”: “الفنانة هبة زقوت في أعمالها تميل إلى إلقاء الضوء على جماليات عديدة في المدينة من خلال الخط والاهتمام بالزي التقليدي الذي ترتديه الفتاة، وتحلم بالمستقبل، كما تهفو إلى حاضر مشرق قد يكون قريبا من خلال الآلة الموسيقية التي تضمها بحب، ويصطف المعمار لديها من خلال خطوط حادة متقاربة تؤكد على الحس الإنساني للمعمار التي تهفو إليه، وهي فنانة مبدعة وروح جميلة رحلت ولديها حلما أن العالم الذي ينتظرها هو الأجمل”.
وكانت آخر ما نشرته هبة على صفحتها عبر “فيسبوك” لوحة تظهر فيها امرأة حزينة تحتضن حمامة السلام، وعلقت بهذه الكلمات: “نحن دائما نبحث عن الأمان في حياتنا، قد نجده في الحب، ولكننا سنظل نبحث عنه”.