ألمح الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في كلمة ألقاها أمس في مؤتمر ميونخ، إلى إمكانية استعادة الوضع النووي لأوكرانيا (أو الحصول عليه).
بالقول إنه من الضروري عقد اجتماع للدول المشاركة في مذكرة بودابست التي كان من المفترض أن تضمن أمن أوكرانيا مقابل تخليها عن حيازة الأسلحة النووية.
وأضاف أن كييف تتقدم بهذا المقترح للمرة الرابعة والأخيرة. وفي حال عدم إجراء المفاوضات قد تعيد أوكرانيا النظر في قرار التخلي عن الأسلحة النووية.
إن تصريحات زيلينسكي مثيرة للدهشة. صحيح أن التصريحات المتكررة بشأن الوضع النووي تصدر في أوكرانيا منذ فترة طويلة وحتى وردت قبل عام 2014 بوقت طويل. ولكن على لسان مَن؟ كانت ترد في السابق على لسان خبراء وسياسيين متطرفين مثل زعيم حزب “سفوبودا” (الحرية) المؤيد للنازية أوليغ تياغنيبوك، لكن تصريحات كهذه تأتي لأول مرة على لسان شخص يتولى السلطة العليا في الدولة وهو أمر ينطوي على تحمل درجة ما من المسؤولية.
وهذه القضية لها وجهان، والوجه الأول هو اقتصادي تقني والآخر سياسي.
من الناحية السياسية، سيكون من الصعب جدا بالنسبة لأوكرانيا إن لم يكن مستحيلا، ترجمة فكرة صنع الأسلحة النووية على أرض الواقع. تجدر الإشارة إلى أن القيادة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كانت تؤيد فكرة نقل الأسلحة النووية الموجودة في كازاخستان وبيلاروس وأوكرانيا إلى أراضي روسيا، أكثر من قيادة روسيا نفسها.
وبهذا المعنى فإنه من الواضح أن موقف الغرب (خاصة أوروبا) لم يتغير. فإنهم ليسوا متحمسين لتوسيع قائمة أعضاء النادي النووي. وبلا شك، لن يكونوا سعداء حين سيعلمون نوايا كييف هذه، إدراكا منهم لضعف المستوى الفكري والصفات الأخلاقية التي يتمتع بها الإداريون المحليون.
من شبه المؤكد أن أوكرانيا المعتمدة على أموال الغرب، ستُحرم على الفور من التمويل الخارجي إذا حاولت إنتاج السلاح النووي أو إذا انسحبت من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. فبدلاً من الادعاء السخيف القائل إن “العالم كله معنا” ستواجه كييف فرض عقوبات حقيقية وستتلقى وصمة دولة منبوذة. حتى أكثر من ذلك، أعتقد أنه لن يكون من الصعب على الغرب أن يستبدل السلطة في كييف إلى سلطة أكثر خضوعا له. ومن شبه المستحيل تخيل أن تنتفض النخب الأوكرانية المتألفة من اللصوص والمتسمة بحملها للعقلية الاستعمارية في حال التعبئة كما يكون الحال مثلا في إيران أو كوريا الشمالية.
وبالتالي، لا نستبعد إمكانية اختيار أوكرانيا للمسار النووي، ولكن من الناحية السياسية سيكون اتباعه صعبا للغاية.
أما الجانب الاقتصادي التقني من القضية فحالته ليست سهلة أيضا. كان قد عمل في حقبة الاتحاد السوفييتي أكبر مصنع صواريخ في البلاد “يوجماش” في مدينة دنيبروبيتروفسك الذي أنتجت فيه على وجه الخصوص منظومة الصواريخ الثقيلةR-36M (RS-20A) Satan (الشيطان). ولا يزال المصنع قيد التشغيل حاليا.
كما تعمل في أوكرانيا بعض المصانع المشابهة وبينها المصنع الميكانيكي في مدينة بافلوغراد المتخصص في إنتاج محركات الوقود الصلب والصواريخ والوقود نفسه، ومؤسسة “خارترون” (مصنع “إلكتروبريبور” سابقا) التي كان تخصصها، العمل على تطوير وتصنيع أنظمة التحكم الآلي بالصواريخ والمعدات الفضائية.
ويجب أن نعي أن عددًا كبيرًا من مكونات هذه المنظومة الصاروخية لم يتم إنتاجها في أوكرانيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستستطيع أوكرانيا إنشاء دورة مغلقة لإنتاج وسائل التوصيل وتحمل نفقات هذا المشروع ماليًا وفكريًا؟ إنها مسألة تثير تساؤلات كثيرة.
على سبيل المثال، ظلت أوكرانيا تعمل على إتمام إنتاج صاروخ “نبتون” المضاد للسفن طوال سبع سنوات رغم توفر الوثائق اللازمة والنسخ التجريبية للصاروخ المجنح السوفيتي Х-35 لديها. في عام 2020 دخل الصاروخ حيز الخدمة، لكن كل المشاكل التي عانى منها لم ينجح الجانب الأوكراني في معالجتها ولا تزال قائمة كما يُقال. وهذا الصاروخ هو صاروخ مجنح صغير دون سرعة الصوت وليس صاروخا باليستيا عابرا للقارات وهذا النوع من الصواريخ يحل في مستوى مختلف تمامًا من حيث التعقيد التقني وسعر الإنتاج.
بالمناسبة، نضرب مثالا آخر. على الرغم من التصريحات المتكررة من السلطات الأوكرانية بأن أوكرانيا في حالة حرب مع روسيا، لم تبن في أوكرانيا أي مصنع خراطيش خلال 8 سنوات لأن المصنع الأوكراني الوحيد المتخصص في إنتاجها يقع في لوغانسك. وذلك رغم أن الأمر لا يحتاج إلى استثمارات مالية كبيرة، وبالتأكيد هي لا تُقارن بالتكاليف المطلوبة لتطوير منظومة صواريخ عابرة للقارات.
ولكن نظريا، من المحتمل أن أوكرانيا لا تزال قادرة على إنتاج وسائل التوصيل حيث نجحت كوريا الشمالية في صنعها استنادا، كما يقولون، إلى التقنيات السوفيتية التي باعها الأوكرانيون للكوريين.
أما وسائل التوصيل فليست سوى جانب واحد من المسألة. والجانب الآخر يشمل الرؤوس النووية التي يتطلب إنتاجها توفر اليورانيوم أو البلوتونيوم المخصب الصالح لصنع الأسلحة النووية.
واليورانيوم كان ولا يزال يستخرج في أوكرانيا بواسطة “مجمع الاستخراج والتعدين الشرقي” في منطقتي كيروفوغراد ودنيبروبيتروفسك. وتعتبر احتياطيات موقع “نوفوكونسنتينوفسكويه” في أوكرانيا الأكبر في أوروبا، كما تدخل ضمن قائمة الاحتياطيات العشرة الأكبر في العالم، وتقدر بنحو 76 ألف طن ما يكفي لاستخراج 70 ألف طن من الناحية الفنية.
ومع ذلك، رغم امتلاك أوكرانيا لاحتياطيات كبيرة من خام اليورانيوم لا تدخل البلاد ضمن الدول القادرة على تخصيب اليورانيوم بشكل مستقل وحتى إنتاج الوقود النووي، الأمر الذي يتطلب مستوى أقل بكثير من التخصيب مقارنة بإنتاج اليورانيوم الصالح لصنع الأسلحة. يُنتج في مصنع معالجة المعادن باستخدام المحاليل المائية في مدينة “جولتيه فودي” مسحوق أكسيد اليورانيوم المركز من خام اليورانيوم، أي “الكعكة الصفراء” وهي مادة لإنتاج اليورانيوم 235. وهذا كل شيء.
علاوة على ذلك، لم تكن هناك مؤسسات تخصيب اليورانيوم حتى في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية. ومن أجل تحقيق مساعيها لإنتاج الأسلحة النووية سيتعين بالفعل على أوكرانيا إنشاء الصناعة الكاملة من نقطة الصفر، الأمر الذي لا يمكن إنجازه في خمس دقائق، ولا بد من إنفاق مبالغ ضخمة وهو ما يثير المزيد من التساؤلات نظرا إلى أن العائدات في الميزانية الأوكرانية فائقة المركزية تقدر الآن بأكثر بقليل من 40 مليار دولار. وذلك بالطبع إن كان بمقدور المهندسين الأوكرانيين ترجمة المعرفة النظرية حول أجهزة الطرد المركزي الغازية إلى الواقع.
إذن، فإن تصريحات زيلينسكي حول إمكانية حصول أوكرانيا على الوضع النووي تبدو وكأنها مخادعة تسعى السلطات الأوكرانية توظيفها لابتزاز الغرب وفي نفس الوقت التلاعب بمشاعر القسم المتشدد وذي النزعة القومية المتطرفة من ناخبيها والتي قرر رئيس البلاد الاعتماد عليه.
ويدرك الغرب على الأرجح أنها مخادعة لأن كل شيء جلي جدًا وساذج ويتسم بالطابع الطفولي.
ولكن إذا قررت كييف المضي في مسار صنع الأسلحة النووية، فيجب أن يكون الرد على مثل هذه المحاولات أشد ما يمكن فلا ينبغي أن تكون هناك حتى فرصة ضئيلة لوقوع الأسلحة النووية في أيدي الأشخاص غير العقلانيين الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين لروسيا ويصفون روسيا بلا خجل بأنها عدو لدولتهم.