اتهموه في إسرائيل بمعاداة السامية بسبب فيلم ، وعاقبته ثورة يوليو بالتأميم…!
قال فوزي لا لكل شىء في حياته…
قال لا لأسرته التي عارضت ولعه بالموسيقى في صباه، فغادر طنطا للقاهرة…
قال لا للجهل الفني، فتخرَّج في معهد الموسيقى العربية بمنتصف الثلاثينيات…
قال لا لصاحبة أول فرقة عمل بها مطربًا ، لأنها طردت زميلة له ظُلمًا، فاستقال احتجاجًا…
قال لا للتبعية الفنية ، فأنشأ شركة إنتاج سينمائي خاصة في 1947، قدَّم من خلالها أعمالاً ناجحة تلائم طابعه الفني…
قال لا للجمود الفني، فكان أول مَن أنتج فيلمًا ملوَّنًا في تاريخ السينما المصرية في 1950، وخسر في فيلمين متتاليين ثلث مُدَّخراته ، وكان أعظم مَن قدَّم أغانٍ للأطفال على مر العقود، فيحفظ أغانيه الآباء والأمهات، ويرددها الأولاد والبنات!
قال لا للاحتكار الأجنبي لإنتاج الأسطوانات ، فأسَّس شركة مصر فون في 1958 ، وألحق بها إستوديو لتسجيل الأغاني… وتزامن ذلك مع تلحينه النشيد الوطني للجزائر المُحتلَّة قبلها بعدة أشْهُر، وهو النشيد المُستمر إلى اليوم، كواحد من أجمل الأناشيد الوطنية تلحينًا على ظهر الكوكب!
نعود فنتوقف أمام موقف إسرائيل منه، ثم الأهم وهو موقف ثورة يوليو منه!
في 1949 أنتجت شركته فيلمًا من بطولته بعنوان “فاطمة وماريكا وراشيل”. أظهر الفيلم أسرة راشيل اليهودية بمظهر البخل والجشع ، وسخر من سلوكيات اليهود… انقلبت الدنيا في إسرائيل الوليدة، واتهموه بمُعاداة السامية، والتطرُّف ضد اليهود ، رغم أن قصة الفيلم مستوحاة من المسرحية الفرنسية الشهيرة زواج فيجارو للأديب بومارشيه في 1784 ، وسبقه موتسارت شخصيًّا بتحويلها إلى أوبرا في 1786!
ولما قامت ثورة يوليو 1ف952، كان محمد فوزي هو أهم مطرب سينمائي، ويقدِّم ألحانه لعدد كبير من مشاهير المطربين والمطربات… لم يكن فوزي مُناهضًا للثورة أو للجيش، لكنه لم يكن مُطبِّلاً أو منافقًا أو مُشاركًا في حفلات الثورة السنوية…
وعندما قرر أن يحارب الاحتكار الأجنبي لسوق الأسطوانات الفنية، وأسَّس شركة باسم مصر، كما كان يفعل من قبله طلعت حرب، كانت ضربة قاسية للمُحتكرين الأجانب في مصر، لأسباب ثلاثة.
أولاً: كانت شركته تصنِّع أسطوانة محلية رخيصة السعر بنصف سعر الأسطوانة المستوردة.
ثانيًا: كانت أسطوانة فوزي غير قابلة للكسر، ويمكن استخدامها على الوجهين، فتتسع لأغنيتين ، بينما كانت المستوردة لا تستوعب سوى أغنية واحدة، وقابلة للكسر! ثالثًا: لم تقتصر الفائدة على الدولة التي وفّرت العملة الصعبة، وعلى المواطن الذي اشترى سلعة أرخص، بل كذلك امتدت المنفعة إلى الفنانين، حيث نسف محمد فوزي النظام الأجنبي المُسيطر القاضي بمنح الفنان قيمة مُحدَّدة من المال مقابل حق استغلال أغانيه ، دون أن يستفيد من إيرادات المبيعات بأي شكل ، فوضع فوزي نظامًا جديدًا يُعرف بحق الأداء العلني للمطرب، وكانت القوانين قبله تخص المؤلف والملحن فقط في الحقوق.
وضع محمد فوزي في مشروعه الوطني كل مُدَّخرات عمره، وباع كل ما يملك من أراضٍ وعقارات. ومن فرط انبهار الجميع بما فعله، فقد افتتح مشروعه رئيس الوزراء د. عزيز صدقي شخصيًّا في 30 يوليو 1958، وأثنى على وطنيته وتوفيره النقد الأجنبي للأساسيات التي تحتاجها الدولة.
ورغم كل ذلك، اجتاح التأميم مصر فون في نهاية عام 1961، ولم يعبأ النظام العسكري بقيمة الفن الذي يقدِّمه الموسيقار محمد فوزي ، ولم يُقدَّر له شعوره الوطني، ورغبته في دعم بلده! أُمِّمَتْ مصر فون وتحوَّلت إلى شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات المعروفة حاليًا!
كان اليوم الذي صدر فيه قرار التأميم هو الأسوأ في حياة فوزي. فقد ركن سيارته أمام شركته، ولاحظ وجود كثيف للعساكر في محيطها. ولما ذهب إلى مكتبه ، وجد شخصًا يجلس على كرسيه ، ويضع قدميه في وجهه على المكتب ، ويعبث بيديه في أدراجه الخاصة ! ولما انتبه إلى وجود فوزي أمامه مشدوهًا ، أخبره بعجرفة واستهزاء أنه الضابط فلان الفلاني ، وأن الثورة قد أمَّمَتْ مصنع أسطواناته وإستوديو أغانيه. ثم نادى في غِلْظة على الساعي، وأمره أن يقود الأستاذ إلى مكتبه الجديد كموظَّف براتب في ملكه الضائع. وكان مكتبه الجديد في غرفة الساعي الخاص به بجوار دورة المياه!
يتوقف التاريخ هنا أمام هذا القرار البائس… ففي الوقت الذي صادر فيه النظام العسكري شركة مصر فون لمالكها محمد فوزي، لم يقترب من شركة صوت الفن لصاحبَيْها محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ!
لكن أي مراقب سيفهم السبب!… نحن أمام شعبية طاغية للعندليب الأسمر ولموسيقار الأجيال ، ونحن أمام مُساهمات فنية سنوية لتعضيد مُلك ضباط ثورة يوليو ، سواء جاءت الأناشيد من باب النفاق ، أو من منطلق الإيمان بأهداف الثورة. النتيجة واحدة ! الثورة لن تقترب ممن يغني “عبد الناصر حبيبنا قايم بينَّا يخاطبنا ، نجاوبه ويجاوبنا ، قائد ومُجنَّدين”، ولن تتعسَّف مع مَن يغني “ردِّينا عليك يا جمال. وإيدينا في إيديك يا جمال. وطلعنا معاك يا جمال. نبني ويَّاك يا جمال. حيُّوا معايا قولوا معايا : عاش عبد الناصر عاش”!
نصح المُقرَّبون محمد فوزي أن يفعل مثلما يفعل الآخرون ، لعلَّه يسترد شركته وأمواله التي راحت.
وجاءته فرصة ذهبية عندما دُعِيَ للمشاركة في العيد السنوي للثورة في 1963، فخرجت أم كلثوم تغني “يا جمال يا مثال الوطنية”، وظهر عبد الحليم يغني “بالأحضان” وبها مقطع يقول: “ياما شفتك ع البُعد عظيمة، يا بلادي يا حُرَّة يا كريمة. وزعيمك خلاَّكي زعيمة، في طريق الخير والعُمران”. ولما صعد محمد فوزي على المسرح وقف ينشد “بلدي أحببتك يا بلدي، حُبًّا في الله وللأبد”!
ثم نزل دون إشارة أو إشادة بالقائد المُلْهَم!
دخل محمد فوزي في حالة نفسية سيئة جدًّا. وسرعان ما تدهورت صحته ، وأصيب بسرطان العظام، وانخفض وزنه من 77 كجم إلى 40 كجم في غضون شهور قليلة! نفدت مدخراته القليلة على علاجه خلال عام واحد، بعد أن صودرت أمواله. وبدأ يعلو صوت بعض الشرفاء من الصحفيين والفنانين مُطالبين برعاية فوزي في مرضه القاسي، فصدر قرار جمهوري بعلاجه على نفقة الدولة، لكنه صدر بعد فوات الأوان!
وتبقى أغرب المفارقات في سيرة محمد فوزي المتوفى في 1966، أن الإذاعة المصرية لم تجد بعد هزيمة يونيو 1967 سوى أغنيته “بلدي أحببتك” لإذاعتها مرارًا وتكرارًا ، فصاروا يذيعونها بأمر الضابط المُشرف على الإذاعة كل نصف ساعة ، فلم يكن ممكنًا أن تُذاع أي أغنية وطنية أخرى ، حيث لم تخلُ معظم الأغاني من تمجيد شخص عبد الناصر، فصارت أغنية فوزي كالسفينة المعيبة في سورة الكهف بين سيدنا الخضر وسيدنا موسى ، أغنية يعيبها خلوُّها من المديح ، فصار عيبها هو سبب إنقاذها بعد الطوفان!
قبل وفاته بأيام كتب رسالة نشرتها الصحف، تقول: إن الموت علينا حق. إذا لم نمُتْ اليوم سنموت غدًا. وأحمد الله إنني مؤمن بربي. فلا أخاف الموت الذي قد يريحني من هذه الآلام التي أعانيها. فقد أدَّيْتُ واجبي نحو بلدي. وكنت أتمنى أن أؤدي الكثير. لكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، لن يطيلها الطب. ولكني لجأت إلى العلاج حتى لا أكون مُقصِّرًا في حق نفسي وفي حق مستقبل أولادي. تحياتي إلى كل إنسان أحبني ورفع يده إلى السماء من أجلي. تحياتي لكل طفل أسعدته ألحاني. تحياتي لبلدي”…