نبدأ في النصف الثاني من شهر رمضان، مجموعة جديدة من الحلقات، التي تركز على شخصيات درامية شهيرة مثل إبراهيم الطاير وسليم البدري وأبو العلا البشري وغيرهم، وهي شخصيات تركت بصمة في ذهن الجمهور على مدار سنوات من التألق الدرامي الذي عاشته مصر منذ بداية التلفزيون المصري، وحتى الآن ما زالت هذه الشخصيات يتردد ذكرها ضمن حالة النوستالجيا والتقدير الكبير للمسلسلات التي صنعها أسطوات الدراما التلفزيونية، وأصبح لها مجموعات على منصات التواصل الاجتماعي للحديث عنها وعن شخوصها وصُناعها.
نعود في هذه الحلقة إلى عام 2001، عندما ظهرت شخصية جليلة على شاشة التلفزيون، ففي 15 نوفمبر عرض مسلسل حديث الصباح والمساء، وهو عمل دسم ممتلئ بالشخصيات، نسج عالمه نجيب محفوظ، وصدر عام 1987، وقدم المعالجة الدرامية له الكاتب محسن زايد، وأخرجه لشاشة التلفزيون أحمد صقر، وشارك فيه عدد ضخم من الممثلين، من بينهم عبلة كامل بشخصية جليلة، وليلى علوي، ودلال عبد العزيز، وسوسن بدر، وأحمد خليل، وإبراهيم يسري وأحمد ماهر، وطارق لطفي، وأحمد زاهر، وجيهان راتب وأميرة العايدي.
وظهر فيه الكثير من الوجوه الشابة حينها والذين أصبحوا نجوما حاليا مثل منة شلبي، وحنان مطاوع وريهام عبد الغفور ونيللي كريم، وأحمد الفيشاوي، ومجدي كامل.
* جليلة الطرابيشي
تعود شهرة شخصية جليلة إلى أكثر من عامل، أولها أنها شخصية محفوظية بامتياز، تحمل الفلسفة والفكر والغرائبية التي تتسم بكثير من شخصيات نجيب محفوظ الأدبية، بالإضافة إلى الدقة والإبداع الذي نسج بها محسن زايد تفاصيل الشخصية، على مستوى لغة الشخصية وملابسها وطريقة تعبيرها وحركتها، وأيضا أداء عبلة كامل المميز ضاف للشخصية طابعا خاصة، فقد أصبحت من أبرز الشخصيات الدرامية التي يتم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي سواق في سياق استرجاع مشاهد لها من المسلسل مثل جملتها الشهيرة “وهو أنا هشتكى للعبد! أنا مظلمتي رفعتها للي لا يغفل ولا ينام”، أو تحويل ردود أفعالها وطريقة جلوسها إلى ميمز وكوميك ساخرة متداولة في سياقات مختلفة.
ويصف نجيب محفوظ جليلة الطرابيشي في نصه الأدبي، وقال: “عُرفت بأنها موسوعة في الغيبيات والكرامات والطب الشعبي، وكأنما أخذت من كل ملة بطرف بدءًا من العصر الفرعوني، ومرورًا بالعصور الوسطى.. حاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يلقنها أصول دينها، ولكنه من خلال المعاشرة الطويلة أخذ منها أكثر مما أعطاها، وكانت تقدس معتقداتها لدرجة التفاني والتصلب.. وكانت صلبة، عنيفة إذا لزم الأمر، فكانت الجارات يعملن لها ألف حساب، وقد لقنت بناتها جميع ما لها من علم وخبرة، فاستجبن لها بدرجات متفاوتة، وبرعت راضية في استيعاب ميراثها أكثر من الجميع، وحظيت بحبها أكثر من أي من ذريتها بما فيهم الابن –الذكر الوحيد- بليغ.. عمَّرَت حتى جاوزت المئة بعشرة أعوام، عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي، وعهود: إبراهيم، وعباس، وسعيد، وإسماعيل، وتوفيق، والثورة العرابية، وثورة 1919”.
من أكثر المشاهد المؤثرة الشهيرة لشخصية جليلة والمتداولة بكثافة على منصات التواصل، مشهد وفاة صديقتها الوحيدة نعمة (دلال عبدالعزيز)، والذي تقوم فه عبلة بأداء منولوج درامي أمام جثمان صديقتها وتعبر فيه عن مدى الشعور بالفقد، وقالت فيه: “الله يرحمك يا نعمة يا أميرة، يا بنت الناس الطيبين يا نعمة يا عِشرتي الحلوة يا نعمة خلاص يا ختي، خلاص.. لا أنيس ولا جليس! عِدمت الحبايب من بعدك يا نعمة يا مقرّب البعيد يا رب، يا مقرّب البعيد يا رب استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم .. خدينى جمبك يا أختي”، ثم تقوم عبلة بالتمدد بجوار جسد صديقتها واحتضانها.
واتسمت جليلة بالقوة والهيبة، يخشاها الجميع رجالا ونساء، كما أنها كانت ذات حكمة وعبارات قوية، وتستطيع إقناع من حولها برأيها، وهي شديدة الإيمان بالله، ويظهر ذلك في أكثر من مشهد تحاول التخفيف فيه عن زوجها مصائب الدنيا والظلم الذي حل به عندما ساند الثورة العرابية.
وشخصية جليلة هي شخصية محورية في الأحداث، وأكثر الشخصيات المُعمرة في النص والمسلسل، حيث ينتهي العمل بمشهد جليلة وهي تجلس في المقابر – بعد نقلت معيشتها هناك- وتقول: “كل شوية ويفتحوا وينزلوا يفحتوا وينزلوا، واللي بينزل مبيطلعش تفضل كفوفه تدوي على الببان من الخبط ويا عالم مين يسمعه”، وأمامها حفرة كبيرة ينزل إليها أشخاص مجهولون، وهي الفلسفة الأساسية للعمل، الحياة والموت.
أما في النص ظلت جليلة جالسة في المقابر ومعها قطط ابنتها شهيرة بعد وفاتها، وظل قاسم يراعيها حتى اشتد عوده وأصبح شابا وأصبح هائما في الأضرحة ومولعا بزيارة الأولياء حتى أصبح واحدا منهم ومشهود له بصدق الرواية ومعرفة الغيبيات، وماتت جليلة وحيدة ودُفنت بجوار بناتها.
اقرأ أيضا: شخصيات درامية لا تنسى (5)..البدري بدار: شخصية صعيدية تفنن في نسجها محمد صفاء عامر