شهد مركز الإبداع الفني بدار الأوبرا المصرية، أمس الخميس، أمسية رمضانية تحت عنوان: “تاريخ الغناء للسماء في القاهرة، ضمن سلسلة اللقاءات الشهرية “أرواح في المدينة”، التي ينظمها الكاتب الصحفي محمود التميمي في إطار مشروع “القاهرة عنواني” المعني باستعادة تراث المصريين.
وتناولت الأمسية تاريخ المصريين مع الإنشاد الديني والابتهالات في رمضان، فضلا عن الاحتفاء بالذكرى الستين لإطلاق إذاعة القرآن الكريم في عام 1964، والتاريخ الكبير لمدرسة التلاوة المصرية.
وجاء من بين ضيوف الأمسية المنشد الشهير الشيخ محمود ياسين التهامي، الذي قدم مجموعة من الابتهالات الدينية وروى تجربته في تأسيس مدرسة للإنشاد الديني في قصر الأمير طاز.
واستضافت الأمسية فريق العمل الذي أنتج فيلم “إذاعة القرآن الكريم من القاهرة” والذي عرضته القناة الوثائقية، ووثّق تاريخ نشأة الإذاعة المصرية العريقة وتطورها، بمناسبة ذكرى مرور 60 عامًا على إطلاقها لأول مرة فى 25 مارس 1964.
وضم الحضور الدكتور مصطفى الصادق، أستاذ الطب المتفرغ بقصر العيني والمهتم بالتاريخ والتراث، والكاتب الصحفي أحمد بان، الباحث في تاريخ الإسلام السياسي، والدكتورة هالة العسيلى أستاذة الإعلام بجامعة عين شمس، والدكتور محمد الشيشتاوي أستاذ التاريخ الإسلامي.
* الست سكينة والست منيرة.. المرأة في عالم التلاوة
وبدأ محمود التميمي حديثه، بالإشارة لجانب من تاريخ التلاوة في مصر قد يخفى على البعض، وهو أن تلاوة القرآن عبر أثير الإذاعة المصرية لم تكن مقتصرة على “الرجال فقط”؛ إذ شهدت الإذاعة في بدايتها وجود عدد من التلاوات بأصوات نسائية من أبرزهم القارئة سكينة حسن والقارئة منيرة عبده.
وأكد التميمي أن الأصوات النسائية كانت على درجة عالية من الجمال والجودة، فقد تعاقد راديو لندن مع السيدة منيرة عبده لتسجيل مجموعة من الابتهالات الدينية.
وتحدث التميمي عن سبب غياب الصوت النسائي في التلاوات القرآنية عن الإذاعة الرسمية قائلا إنه صدرت فتوى في الأربعينيات تحرم جهر المرأة للقرآن عبر الإذاعة، مشيرا إلى أن صدور تلك الفتوى لم يكن دافعه ديني مجرد، بل قد شابه تأثر مصلحة المشايخ الرجال بمزاحمة النساء لهم في إحياء المآتم والليالي؛ لذا كان السعي لإخلاء ساحة المنافسة من أجل منافع المادة والشهرة.
ورأى التميمي أن ذلك القرار تسبب في حرماننا من عشرات التجارب الإبداعية المشابهة للسيدة أم كلثوم، حيث إنها تعد امتدادا لذلك الرافد الثري.
ولفت التميمي لرسوخ الجانب الروحي في قلوب المصريين رغم تباين الخلفيات الثقافية والاجتماعية، حيث أجرت مجلة المصور تحقيقا صحفيا فى عام 1950من داخل سجن الاستئناف، ورصدت المجلة مساجين يواظبون على الصلاة، وهم مقيدون بالسلاسل طالبين العفو والغفران لما ارتكبوه من جرائم، ويلهجون بالدعاء أثناء ليلهم ويمسحون وجوههم فى النهار بضريح “الست صفية”، ربما تتشفع لهم عند الله، وهم يأملون من الله العفو، نادمين على ما فعلوه من ذنب.
وجاء بتحقيق مجلة المصور، أن ضريح “الست صفية” يوجد داخل سجن الاستئناف، ويذهب إليه المساجين يوميا، ويدعون عند ضريحها بالإفراج عنهم ومساندتهم، ودعم قدرتهم على تحمل الحبس، وليس المساجين وحدهم من يتبركون بها، لكن مأمور السجن كان من بينهم، ويعيش فى رعايتها ويقرأ لها الفاتحة صباح كل يوم، ويقضى معظم الوقت بجانب الضريح، وكثيرا ما يجمع مرؤوسيه عندها ليحدثهم فى شئون الدين ويوصيهم أمامها بأن يحسنوا معاملة السجناء.
وانتشرت روايات كثيرة بخصوص كرامات الضريح وصاحبته؛ فقد قيل أحد السجناء حٌكم عليه بالإعدام فى جريمة قتل وهو برىء، وقبل ميعاد تنفيذ الحكم بساعات، ظل يهتف باسم الست صفية، وإذا به يأتى له خبر أن محكمة النقض قبلت الطعن، وأعادت القضية إلى محكمة الجنايات فتقضى ببراءته.
ومع تصفح تحقيق المصور، أظهرت بعض صوره جانبًا من التفرد الإبداعي للمصريين، فقد جاء بصورة تطوع مسجون برسم بديع لمحراب القبلة بالمسجد ورغم استخدام أدوات بدائية في تنفيذه إلا أنه يبدو وكأنه صمم باستخدام برامج تصميم الثلاثية الأبعاد، بالإضافة بقصيدة شعرية خطها أحد المسجونين.
وعلى مقربة من الست صفية كان يقع ضريح آخر في ذات المحيط وعرف بضريح الست سعادة، والذي كان وجوده بالقرب من مبنى المحافظة (مديرية الأمن) تأثير في ثقافة رجال شرطة القاهرة، وعرفت السيدة سعادة لدى البعض بأنها شفيعة الضباط.
* إذاعة القرآن الكريم
وعرض التميمي أجزاء من الفيلم الوثائقي “إذاعة القرآن الكريم.. من القاهرة”، وجاء به مداخلة الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، بيّن خلالها أسباب وظروف تأسيس الإذاعة العريقة، بأن في ذلك الوقت ظهرت طبعة من نسخ القرآن الكريم بطبعة أنيقة ومصروف عليها بشكل كبير ولكنها كانت محرفة في بعض الآيات، مشيرا إلى أنه في فترة الستينيات، اتهم عبد الناصر بأنه نظام اشتراكي وضد الإسلام وكان هناك محاولات دائمة من نظام عبد الناصر على تأكيد الهوية والبعد الإسلامي في هذه الفترة، ولا ننسى الصراع بين عبد الناصر والإخوان في تلك الفترة، وبالتالي اتهام البعض لعبد الناصر بمعاداته للإسلام ولكنه أراد تأكيد الهوية الإسلامية لنظامه من خلال بعض الأمور التي كانت واضحة من تطوير الأزهر وإذاعة القرآن الكريم.
* مدرسة التهامي للإنشاد
وعلى هامش الأمسية تحدث الشيخ محمود ياسين التهامي عن تجربة تأسيسه لمدرسة للإنشاد الديني، بقوله: “أن ما دفعه لتلك التجربة قبل 10 سنوات ما لاحظه من أغلب المنشدين المحترفين يعملون بالخبرة والموهبة فقط دون العلم.. من هنا وجب علينا أن نؤسس مدرسة الإنشاد حتى تصقل المواهب بالدراسة والعلم”.
وأوضح التهامي أن مدرسته تستقبل أصحاب المواهب الواعدة من مختلف الأعمار والجنسيات، وما قد يثير دهشة البعض أن بعض الملتحقين بها من غير المسلمين، ما يؤكد أن الإنشاد هو فن إنساني جامع وشامل، الجمهور الغربي والأجنبي يستقبل الإنشاد بشكل قوي، فإن غابت عنهم المعاني فالإحساس موجود بالتأكيد.
وتابع التهامي أنه لاحظ بأن أداء الفتيات من طلاب مدرسته يتفوق على الذكور، ما قد يبشر بانتشار ذلك الفن وامتداده للأجيال القادمة، فتلك الفتاة ستصبح أمًا في المستقبل وسيكون لها الدور في تنشئة جيل يقدر الجمال والفن.
* المسحراتي
وقبل ساعات قليلة من السحور، كان ختام الأمسية، مع بسيوني عمارة، الذي يعمل الترجمة والتدقيق اللغوي لكنه محبا وشغوفا بالغناء والإنشاد، وقام بأداء لأغنية “المسحراتي” للفنان سيد مكاوي والشاعرالكبير وفؤاد حداد كانت، ونال أدائه استحسان وإعجاب الحضور.
يذكر أن “أرواح في المدينة” هي سلسلة لقاءات شهرية ينظمها الكاتب الصحفي محمود التميمي، وتعني بتوثيق تطور المجتمع المصري عبر إعادة قراءة الأحداث والتاريخ ومن خلال الأرشيف المصري مكتوب وبصري ومسموع.