• كدب أبيضّ فيلم مغربى يعيد ببراعة المشهد الأليم لـ”سنوات الرصاص وانتفاضة الخبز “
يواصل مهرجان مالمو للسينما العربية، فعاليات وعروض دورته الـ14، وسط حضور جماهيرى كبير من عدة مدن سويدية، فيما انطلقت أولى حلقات نقاش أيام صناعة السينما، وإلى جانب عروض الأفلام الطويلة المشاركة في المسابقة الرسمية، شهدت كل من مدينتي مالمو ويوتيبوري عروض الليالي العربية.
كان المشهد مدهشا فى قلب مدينة مالمو، لم أكن أتخيل هذا الإقبال الكبير على عروض الأفلام الروائية العربية، حيث امتلأت قاعات سينما بانورا، وتفاعل الحضور مع صناع الأعمال فى مناقشات حول الرؤى الفنية والفكرية، وهو ما يمثل بحق لحظة نجاح أخرى لمهرجان مالمو للسينما العربية ومؤسسه المخرج محمد قبلاوى، بتحقيق تلك الحالة الكبرى من الزخم والتواصل بين الجمهور الأوروبي والسينما العربية التى تحمل قضايا مجتمعاتها بصورتها الواقعية وكذلك أحلامها للغد، وقد ضم برنامج عروض الدورة الـ14 للمهرجان اختيارات واعية ومتنوعة، بدأت بأحد أهم الأفلام التى وصلت للقائمة القصيرة فى المنافسة على الأوسكار، والحائز على جائزة الإخراج بمسابقة نظرة ما بمهرجان كان، وهو الفيلم المغربى “كذب أبيض” للمخرجة أسماء المدير وبحضورها، حيث التقت الجمهور وحاورها بعد العرض فى تفاصيل فيلمها الوثائقى الذى يستكشف الماضي المليء بالأسرار في عائلة المخرجة، مسلطا الضوء على تاريخ المملكة المغربية خلال الفترة التي أطلق عليها “سنوات الرصاص” في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
وفى الأجواء أيضا قصة اكتشاف العلاقة والرابط بين أحداث احتجاجات ثورة الخبز الأليمة في عام 1981 بالدار البيضاء وقتل فيها عدد من المتظاهرين رميا بالرصاص أو اختناقا في المعتقلات. والحياة المعاصرة في المغرب.
والواقع أن الأسلوب الذى انتهجته المخرجة في معالجة القضية كان ذكيا في الاختيار، وربما هذا أعفاها من عيون الرقابة وأعفى المشاهد أيضا من رؤية مشاهد عنيفة كثيرا. فنحن أمام مرحلة كان فيها، حسب الفيلم، قمع كبير، كما قد يكون خفف عنها أعباء إنفاق أموال كبيرة في العمل، لأنها مشاهد تحتاج لإمكانيات مادية ضخمة.
ونظرًا لعدم توفر صور أرشيفية، ابتكرت المخرجة آلية ذكية من خلال تصوير نموذج لمنزلها القديم في الدار البيضاء خلال طفولتها، واستخدمت تماثيل لتصوير ماضي أسرتها.
الرؤية السينمائية مميزة بعمقها وتعقيدها، حيث يتم استكشاف الجوانب الشخصية والسياسية ببراعة. يظهر السيناريو بشكل متقن كيف يتداخل الشخصي بالسياق السياسي، حيث تعيش الشخصيات توترًا مستمرًا بين شكوك حول هويتهم الشخصية وذكريات مؤلمة عاشوها في المغرب إبان ثورة الخبز وحقبة قاسية ودموية.
تأخذ بطلة القصة الشخصية الرئيسية، وهى المخرجة نفسها أسماء المدير في رحلة استكشافية تبحث فيها عن الحقيقة والهوية. من خلال كاميرا الفيديو الخاصة بها، تتناول الأسرار والأكاذيب التي اجتمعت حول تاريخ عائلتها الاب والجد. تُظهِر هذه الأكاذيب أحداثًا مؤلمة من تلك الفترة، والتي تشهد على انتهاكات حقوق الإنسان.
يتميز الفيلم بأسلوبه البصري الرائع واهتمامه الواضح بأدق التفاصيل لتعزيز التجربة السينمائية. تُظهِر البيئة المرهقة والمنازل المصغرة المُصنَّعة يدويًا رموزًا تعبّر عن الذكريات المؤلمة وتحمل معانٍي عميقة حول الماضي والحاضر.
الفيلم يجمع بنجاح بين البعد الشخصى والتاريخى والسياسي بطريقة متقنة ومعقدة، مما أضاف إلى الحكاية عمقًا زاد تأثيرها على الجمهور، حيث تعبِّر المخرجة عن تجربتها في تخطي التحديات الشخصية والعائلية لتسليط الضوء على قصة جيل سابق وتأثير السياسة والظروف الاجتماعية على الفرد والعائلة.
وتستكشف المخرجة فى هذا الفيلم ماضيا مجهولا لعائلتها، ونراها تزور منزل والديها في الدار البيضاء لمساعدتهما على الانتقال إلى منزل آخر. ومع بدء فرز الأغراض التي كانت تملكها خلال طفولتها، عثرت على صورة جعلتها تبدأ التساؤل عن الأكاذيب الصغيرة التي أخبرتها بها عائلتها.
يعكس الأسلوب الفني للمخرجة تنوعًا ملحوظًا وهى تمزج بين عدة عناصر متداخلة وبفضل هذا الأسلوب تتمكن القصة من الانتقال عبر مستويات مختلفة من التفسير والفهم من خلال استخدام الدمى والصور والرموز، وتعبر المخرجة عن إعادة إحياء للقصة التي حاولت عائلتها التعتيم عليها، بمنح الأحداث التاريخية أبعادا جديدة من خلال تجربة بصرية فريدة.
وأشارت أسماء المدير إلى أن هناك كثيرًا من التحديات واجهتها خلال تصوير العمل، خاصة فيما يتعلق بالسماح بدخول الكاميرات إلى القرية والمنازل التي صورت فيها الفيلم، حيث إن أهل القرية من العائلات المحافظة، وكان الأمر يحتاج لثقة كبيرة معهم، وأنها حاولت الاقتراب من الواقع داخل القرية التي ولدت فيها والدتها، لافتة إلى أنها سعت لتقديم سينما جديدة بعيدة عن الصورة النمطية المعتادة في الأعمال السينمائية، حيث يركز الفيلم على الجوانب الإنسانية، وهذا العمل أخذ 10 سنوات لأخلق أرشيفي الخاص، لاستخدمه، فقد سردت فيه الأحداث بطريقة مختلفة، وفق رؤيتي أنا. هو عمل يمكن أن نسميه وثائقي أو خيالي، يمكن أن نجمع بين الاثنين. لكن في الأخير هو فيلم.
وأضافت قائلة: “علاقتى بهذه الأحداث هي علاقة هوية، علاقة حي، جيران… نحن تصالحنا مع ماضينا كجيل جديد. جيل محمد السادس ، جيل آخر له حرية التعبير في حدود الفن”.
وأوضحت أن الشيء الفريد لم يكن في القصة، ولكن في الكيفية التي حُكيت بها الأحداث، وأشادت بها لجنة التحكيم في المهرجان، حيث نجحت في إقناع كل أطراف العائلة من أجل المشاركة في هذا الفيلم.