بشجاعة خطفت الأنظار ومقطع فيديو لم تتخط مدته ثوانٍ معدودة، احتفى العالم يوم 12 فبراير الماضي بما فعلته الطبيبة الفلسطينية أميرة العسولي، بعدما تحدت رصاص الاحتلال الإسرائيلي؛ لإنقاذ شاب مصاب أمام بوابة مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
أبطال الواقعة: استشارية النساء والولادة أميرة العسولي، والطبيب محمد أبو لحية، والمصور الصحفي محمد الحلو، حلوا مساء الثلاثاء، ضيوفًا على برنامج «مساء DMC»، الذي يقدمه الإعلامي أسامة كمال عبر فضائية «DMC»، ليكشفوا تفاصيل الواقعة التي هزت قلوب الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي.
بدأت الحكاية عندما كان «الحلو» وصديقه إبراهيم يحاولان النوم لدقائق معدودة في خيمة تقع بالقرب من بوابات المستشفى، بعد يوم طويل من الأحداث كان شاهدًا على تهجير المواطنين من المدارس، ومنع قوات الاحتلال دخول الطعام والشراب، واستمرار استهدافها للنازحين عبر القناصة وطائرات الكواد كابتر.
ويقول الصحفي البالغ من العمر 23 عامًا، إنه وصديقه الذي يعمل كمساعد مصور فوجئا بإطلاق النار بشكل مكثف خارج الخيمة، ما دفعهما للخروج للوقوف على ما يحدث وتوثيقه؛ خاصة أنهما كانا الصحفيين المتبقيين في المجمع الطبي، بعدما قضى الاحتلال على أغلب الصحفيين الموجودين ودفع البعض الآخر إلى النزوح.
حِرص «الحلو» على ترك كاميرته مفتوحة على مدار الـ24 ساعة مكنه من توثيق ما حدث، خاصة أن إيهام الفلسطينيين أنفسهم بوجود مكان آمن في قطاع غزة، بعد الحرب الإسرائيلية التي بدأت منذ السابع من أكتوبر الماضي، «أكبر كذبة».
توجه المصوران نحو قسم الاستقبال لمتابعة ما يحدث، وتمكن الحلو من الدخول إلى القسم بأعجوبة رغم إطلاق النار الكثيف، لكنه فوجئ بعد دقيقتين من دخوله بصوت صراخ يأتي من الخارج، وصُدم عندما وجد صديقه إبراهيم ملقى على الأرض مصابًا برصاص الاحتلال.
بصوت يغلب عليه الحزن، يستعيد الشاب المشهد الذي لا يغيب عن ذهنه، فهو لا يجد أسوأ من إحساس العجز عن إنقاذ صديقه لمدة ساعة ونصف، نتيجة إطلاق النار المكثف بدون أي سبب فقط للتنكيل والترهيب.
تلك الواقعة لا تمثل سوى جزءًا بسيطًا من جرائم الاحتلال في المجمع الطبي، فالمصور يقول إنه رأى قوات الاحتلال أثناء قنصها لأحد الأطباء في غرفة العمليات، وكذلك إطلاق النار على كل الكائنات الحية بمحيط المكان حتى القطط والكلاب، فضلًا عن عجزهم عن مواراة جثامين الشهداء الثرى وبقائها لأيام أمام بوابات المجمع؛ بسبب استهداف أي شخص يحاول فقط الاقتراب منها.
بعد ساعة ونصف، تبدأ رحلة الطبيبان «أبو لحية» و«العسولي» لإنقاذ المصور الشاب الذي سقط على الأرض جريحًا، وفشلت كل محاولات التدخل لنقله من الخيمة إلى مدخل الاستقبال؛ لإجراء الإسعافات الأولية اللازمة.
تروي الطبيبة الفلسطينية أنها نزحت إلى المستشفى وقررت بعدها التطوع للعمل في مبنى الولادة؛ لتساعد غيرها من النساء النازحات والموجودات في محيط المكان قدر الإمكان.
وصبيحة الواقعة حوالي الساعة الواحدة والنصف تلقت الطبيبة اتصالًا من شخص مقرب لها حذرها من وجود القناصة في محيط المبنى، لتفاجأ بعد إغلاق الخط بـ10 دقائق بإطلاق النار على زجاج الغرفة التي تواجدت فيها.
غادرت الطبيبة الغرفة لكنها لم تلبث إلا أن سمعت صوت «إبراهيم» يتأوه وينطق الشهادتين بعدها، ومن حوله أصوات النساء يستغيثون طلبًا لـ«إنقاذ الجريح»، وكونها الطبيبة الوحيدة في المبنى قررت «العسولي» أن تتفقد الشاب في محاولة لإنقاذه.
أثناء توجهها نحو المصاب فوجئت «العسولي» بالطبيب أبو لحية قادمًا من مبنى آخر، وقررا معًا المخاطرة بحياتهما لإنقاذ الجرحى الذين أسقطهم الاحتلال واحدًا تلو الآخر، فالأمانة المهنية تحتم عليهما الاستجابة لأي نداء استغاثة دون اكتراث لصوت طلقات المدفعية والنيران.
تمكن الطبيبان من انتشال «إبراهيم» الجريح الأول لكنهما اكتشفا أنه استشهد بعد نقله إلى المبنى الآخر، وشعرت الطبيبة بـ«خيبة أمل» لما وصفته بـ«الفشل في إنقاذ إنسان»، لكن زميلها سألها عما إذا كانت ترغب في تكرار التجربة لإنقاذ الجرحى الآخرين.
بشكل عفوي نزعت الطبيب معطفها وقررت أن تعيد الكرة لإنقاذ جريح آخر عمره أقل من 18 عامًا، ورغم تحذيرات ممرضة لها بعدم الذهاب خوفًا على حياتها، إلا أن ذهنها كان مركزًا فقط على الوصول إلى الطفل ونقله إلى المبنى لتلقي العلاج.
لا تدرك «العسولي» كيف وصلت إلى الطفل الجريح تحت نيران الاحتلال، ولم تشعر حتى بالمخاوف التي انتابت المحيطون بها في ذلك التوقيت، فكل ما كان يدور بعقلها هو الوصول إلى المصاب حتى لو ضحت بحياتها مقابل ذلك.
من فرحتها صرخت الطبيبة الفلسطينية «المصاب عايش»، وبعدها بدقائق معدودة تمكن «أبو لحية» من الانضمام إلى زميلته، وقررا معًا حمل الطفل المصاب على نقالة والعودة به إلى مبنى المجمع لإجراء الإسعافات اللازمة.
ويؤكد الطبيب أنه لم يفكر خلال تلك اللحظة في الاستشهاد وإنما كان حريصًا على الوصول إلى المصاب بأي ثمن، فهو لا يخاف الاحتلال أو إطلاق النار وإنما يخاف الله رب العالمين أكثر من أي شيء آخر.