يمر لبنان بأزمات داخلية وصراعات سياسيّة، في الوقت الذي يشهد فيه محيطه الإقليمي تحديّات جمّة، وهو ما يطرح عدة تساؤلات بشأن الحلول الممكنة لإنقاذه من وضعه المالي الحرج وحماية أمن مجتمعه ورسم ملامح دوره المستقبلي في المنطقة.
داخلياّ، دخلت البلاد فراغا دستوريّا مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في عام 2022، وأصبح مجلس وزرائه حكومة تصريف أعمال غير مكتملة الصلاحيات، وهو الأمر الذي أحدث انقساما في الآراء بشأن دورها في هذه المرحلة.
فهناك من يرون الاستمرار في الدعوة لعقد جلسات واتّخاذ قرارات في ظل شغور منصب رئيس الجمهورية ضربا لميثاق العيش المشترك، بينما ترى رئاسة الوزراء في المقابل أن عملها ضروريّ من أجل استمرار مرافق الدولة، وتقول إنها غير مسؤولة عن تعطيل انتخاب رئيس للبلاد.
أيضا، ألقى الانهيار الاقتصادي الذي حدث في لبنان عام 2019 وتبعاته بظلالهما على البلاد، حيث تهاوت قيمة العملة المحليّة، وصدرت مذكّرات قضائيّة بحق مسؤولين في القطاع المصرفي، وسط خشية من ضياع أموال المودعين.
أما إقليميّا، فهناك الحرب الدائرة في قطاع غزة الفلسطينيّ منذ أكثر من سبعة أشهر، والتي ألقت بظلالها على لبنان وخلقت توترات على حدوده الجنوبية بين جماعة حزب الله والقوات الإسرائيلية أفرزت مناوشات مستمرة بين الجانبين.
* مرحلة حسّاسة
ويرى الكاتب السياسي سركيس أبو زيد أن لبنان يمر بمرحلة بالغة الحساسية، في ظل وجود تغيير على مستوى المنطقة يتأثر به البلد، معتبرا أن قانون الانتخابات يعكس الوضع الراهن، لأنه “هو الذي أنتج مجلس نواب لا يملك أكثريّة تُمكّنه من الحكم”.
وقال في حديث لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) “هناك من يتحدّثون عن مشاريع تقسيم جديدة وموازين قوى ستنعكس على لبنان؛ وبعض اللبنانيين، ومنهم بعض المسيحيّين، يراهنون على المتغيرات الدولية ليكون لهم حصة فيها”.
لكنّه حذّر من أفكار التقسم، التي قال إن “فئة صغيرة” دعت إليها ليصبح البلد بلدين “وهي أسوأ من الفيدرالية؛ فهذا الترويج دونه عقبات، كون تركيبة النظام اللبناني قائمة على التوافق، ومن دونه سيؤدي إلى فتنة وحروب”.
وتابع “في هذه المرحلة، الانتظار هو سيد الأحكام؛ فالجميع غير مقتنعين بالحالة الحالية”، معتبرا أنّ اللبنانيين “لن يتمكنوا من الوصول إلى إصلاحات قبل استقرار موازين القوى على مستوى المنطقة”.
ويرى أبو زيد أن المراجعة في هذه المرحلة “ضرورية لكل الأطراف”؛ وخصّ بالذكر الأحزاب المسيحية، التي قال إنّ عليها إعادة حساباتها “من خلال حجمها ودورها والتفكير في المستقبل أكثر من الماضي”.
أضاف “في الوقت الحالي، المسيحيّة السياسيّة فقدت قدرتها على المبادرة، كما كانت تشكلّه في زمن تأسيس لبنان والنهضة العربية؛ والأحزاب مطالبة بتقديم رؤية للبنان الغد بالشراكة مع الآخرين، وليس بمعزل عنهم، ضمن مشروع وطني عام”.
* الحضور المسيحيّ
وفي لبنان، جرت العادة على أن يذهب منصب رئيس الجمهورية إلى الطائفة المارونية، بينما تذهب رئاسة مجلس الوزراء للسنّة، ويكون رئيس البرلمان منتميا للطائفة الشيعيّة.
كما تتوزّع وظائف الفئة الأولى في المؤسسات الرسميّة والإدارات العامة على مختلف الطوائف، ومنها قائد الجيش للطائفة المارونية، ورئيس مجلس الإنماء والإعمار للسنّة، ورئيس أركان الجيش للدروز، ومحافظ بيروت للطائفة الأرثوذكسية.
ويرى النائب فادي كرم، عضو (كتلة الجمهورية القوية)، أن تراجع الحضور المسيحي في المؤسسات الرسمية خلال الأعوام الثلاثين الماضية “جاء نتيجة عدم الثقة في المؤسسات الرسميّة، التي وضع النظام السوري يده عليها خلال وجوده في لبنان”.
وقال في حديث لوكالة أنباء العالم العربي “الأمر استمر مع وجود حزب الله؛ فالمنهجية التي اتبعت في إدارة الدولة أبعدت الكثير من المواطنين الذين يتمتعون بالكفاءة من المسلمين والمسيحيين عن الدولة؛ لكنّ المسيحيين تأثّروا بشكل أكبر”.
أضاف “الأحزاب والشخصيات المسيحيّة تقوم بإعادة قراءة الموقف، من أجل الوجود والبقاء؛ فالمسألة ليست ملفا صغيرا، إنما مرتبطة بالوجود المسيحي في المنطقة”.
وتابع “لدى معظمهم (المسيحيين) رأي بأنّ التركيبة الحالية للدولة لا يُمكنها ضمان الشراكة والاستمرارية، إذ أصبحت تلك الشراكة مهددة من قبل سياسات حزب الله التي ضربت كل مفهوم الشراكة والعيش الواحد”.
* الحياد الضروريّ
وكان البطريرك الماروني بشارة الراعي شدّد خلال السنوات الأخيرة على ضرورة حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية، ودعا إلى مؤتمر دولي لإنقاذ البلد من الأزمات المتلاحقة.
ويرى كرم أن “الحياد هو الضامن لعودة لبنان المتميز بعيشه المشترك وتطوره وحياته الطبيعية؛ لكن ما بين الحياد والوضع الحالي مسافة كبيرة بسبب وجود حزب الله والمشروع الإيراني التوسعي الذي يمنع اللبنانيين من استعادة بلدهم”.
من جانبه، قال أبو زيد إن “البطريرك الراعي حين يتحدّث عن الحياد يذكر استثناء فلسطين والقضايا العربيّة الكبرى، لأنّه يدرك أن هذه المواضيع لها انعكاس على الساحة اللبنانيّة”.
وتابع “الحياد بحاجة إلى توافق، وليس لديه معالم واضحة؛ فسنة 1943، عدّوا الحياد أن يكون لبنان على الحياد بين الشرق والغرب، أو بين الاتحاد السوفيتي السابق وأميركا، في حين الآن من يقول إنه مع الشرق يعدّون قوله خيانة، وهناك طرف منحاز للسياسة الغربية”.
* دور لبنان في المنطقة
الباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية خضر محمد يرى بدوره أنّ تراجع دور لبنان في المنطقة خلال السنوات الماضية له أسباب من بينها الانهيار الاقتصادي، والذي أفرز أزمة داخلية “متعددة الأوجه… طالت الفئات الاجتماعيّة كافة”.
وقال محمد في حديث لوكالة أنباء العالم العربي إنّ “أحد أهمّ الركائز التي أعطت لبنان دوره في المنطقة هو القطاع المصرفي، الذي كان يشكّل مصدر ثقة للعديد من العملاء العرب والأجانب”.
أضاف “مع الانهيار الاقتصادي… خسر لبنان القطاع المصرفي وأصبح من الصعب حاليا إعادة ترميمه”.
كما اعتبر أن “تتابع الأزمات، أخرج لبنان من دوره الريادي؛ فهو كان من أحد مصادر الإنتاج المعرفي والتقدّم التعليمي، وشكلت السياحة أحد مصادر الدخل الأساسية لخزينة الدولة، إضافة إلى أهمية مرفأ بيروت على الساحل الشرقي للبحر المتوسط”.
ويرى الباحث السياسي أن الحريّة وتنوّع المكونات اللبنانية يُعطيان فرصة للتواصل مع مختلف الدول والثقافات لتكون العاصمة بيروت مدينة غنيّة بنشاطها السياسي.
لكنّه يحذر في الوقت ذاته من وجه آخر سلبي، حيث يقول إن هذه الحرية “تجربة قابلة للانفجار وتحولها إلى صراع بين اللبنانيين، نتيجة ارتباطهم بمشاريع خارجية ومطامع داخلية”.