الملكية الفكرية هي آلية قانونية لحماية ابتكار وإبداع العقل البشري، سواء كان ابتكارًا في مجال صناعي أو تجاري، فتكون “الملكية الصناعية” لحماية الابتكار، وإفادة المبتكر اقتصاديًا –استئثاريًا- من العوائد الاقتصادية لاستغلال ابتكاره لمدة زمنية محددة، أما إذا كان الإبداع في مجال فني أو أدبي أو علمي، فتكون “الملكية الأدبية والفنية” لحماية هذا الإبداع أيضًا، وإفادة المبدع اقتصاديًا –استئثارًا-لمدة زمنية محددة، وبعد استنفاد المبتكر أو المبدع لمدة حماية حقوقه المالية على اختلاف وآليات مدد الحماية؛ يعود النفع الاقتصادي إلى المجتمع كاملًا فيما يسمى “الملك العام” مع اختلاف آليات هذا الملك بين الملكية الصناعية والملكية الأدبية، وتبقى الحقوق الأدبية للمبتكر والمبدع أبدية لا تنتهي ولا تسقط ولا يتنازل عنها، سواء كان صاحب حقيّ الملكية الفكرية -المالي والأدبي- فردًا طبيعيًا أو معنويًا.
وفي إطار السعي نحو تدعيم نظام قانوني دولي للملكية الفكرية متين، متطور، جاذب للاستثمار، دافع للإبتكار والإبداع، أكثر شمولية لرعاية حقوق أصحاب الحقوق، كان رصدنا لانعقاد المؤتمر الدبلوماسي المعني بإبرام اتفاقية دولية بشأن الملكية الفكرية والموارد الوراثية والمعارف التقليدية المرتبطة بها، في مقر المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) في الفترة من 13 إلى 24 من مايو 2024.
لتتكلل مجهودات امتدت أكثر من 20 عامًا لاجتماعات خبراء اللجنة الحكومية الدولية المعنية بالملكية الفكرية والمعارف التقليدية والفولكلور، التي بدأت عام 2001 في جنيف، ومرت بأزمات في آليات عملها، كادت أن تحول دون إنجاز مهمة وضع صك قانوني دولي يضمن حماية معارف الشعوب الأصلية والجماعات المحلية وأشكال التعبير الثقافي التقليدي، إلى أن تم وضع أول نص تفاوضي متعلق بالموارد الوراثية والمعارف التقليدية المرتبطة بها عام 2012 بعد الفصل بين الملفين، وإرجاء الفصل في مناقشات الملف الثاني إلى وقت لاحق –قريب-.
تعرّف الموارد الوراثية في رؤية المنظمة العالمية للملكية الفكرية بأنها: أصول وراثية نباتية أو حيوانية أو جرثومية أو جينية أو غيرها من موارد، توجد في صورتها الطبيعية في البيئة، أو تلك التي تستعملها أو تستخدمها الجماعة المحلية باضطراد في شكل معرفة تقليدية، ومثالها ما يوجد في النباتات الطبية والسلالات الحيوانية.
أما المعارف التقليدية للجماعات المحلية والشعوب الأصلية فهي ما اعتادت هذه الجماعات على ممارسته واستخدامه عبر أجيال من ممارسات علمية وزراعية وصناعية، بما يعبر عن هويتها، ومثاله استخدام ورق نبات الجوافة لعلاج أمراض الكحة، أو استخدام الكركم كوسيلة لعلاج الجروح، الذى يستخدم أصلاً فى إضفاء نكهة مميزة للطعام، وطبياً منذ آلاف السنين لعلاج الجروح والطفح الجلدي، كما يستخدم بشكل آخر فى التلوين والتزيين.
أما أشكال التعبير الثقافي التقليدي، أو ما يعرف بإسم “الفلكلور”، فيعرف بأنه إبداع الأفراد والجماعات والمجتمعات لمضمون ثقافي معبر عن الهوية الجمعية للمجتمع المحلي، ومثاله الأمثال الشعبية، وطقوس الاحتفال باستقبال شهر رمضان، والسير الشعبية.
ينعقد المؤتمر الدبلوماسي حاليًا في (جنيف – سويسرا) برئاسة مندوب البرازيل المفوض، وحضور حوالي 1200 مندوب مفوض ومعتمد، ممثلين للدول 193 الأعضاء في المنظمة، ومندوبي المنظمات الحكومية الدولية ومنظمات المجتمع المدني، وممثلي المجتمعات المحلية والشعوب الأصلية، ومشاركة فاعلة من وفد مصري رائد ضليع في الملكية الفكرية وطنيًا وإقليميًا ودوليًا يرأسه المستشار الدكتور/ حسن البدراوي.
يهدف المؤتمر الدبلوماسي إلى إقرار اتفاقية دولية بشأن طلبات براءات الاختراعات التي تستند إلى موارد وراثية وجدت في بيئتها بصورتها الطبيعية، أو الطلبات التي تستند إلى معارف تقليدية لدى الجماعة المحلية تستخدم هذا المورد الوراثي بالمفهوم السابق.
يشتمل الاقتراح الأساسي للاتفاقية في صيغتها المتفاوض حولها، المتاحة منذ ديسمبر 2023، ديباجة موجزة تشير إلى الاعتراف بدور الملكية الفكرية نهوضًا بالابتكار ونقل ونشر المعارف وتحقيق التنمية المستدامة، والمنفعة المتبادلة على موردي الموارد الوراثية والمعارف التقليدية للجماعة المحلية من جانب، ومستغلي هذه الموارد والمعارف من جانب آخر.
تهدف الاتفاقية المنتظرة من خلال موادها -23 مادة- إلى هدفين أساسيين، أولهما: تعزيز فعالية نظام براءات الإختراع، وثانيهما: منع منح البراءات بصورة خاطئة لاختراعات ليست جديدة أو لا تنطوي على نشاط ابتكاري، فيما يتعلق بالاختراعات التي تعتمد بشكل رئيس على الموارد الوراثية أو المعارف التقليدية المرتبطة بها.
تسعى الاتفاقية إلى تحقيق هدفيها من خلال آليتين أحدهما: شرط إلزامي بالكشف عن معلومات بلد منشأ أو مصدر المورد الوراثي، أو عن الجماعة المحلية أو الشعب الأصلي الذي ورّد للمخترع المعارف التقليدية المرتبطة بالموارد الوراثية، وثانيهما: يتمثل في إنشاء قواعد بيانات وطنية للموارد الوراثية والمعارف التقليدية المرتبطة بها، بالتشاور مع الجماعة المحلية أو الشعب الأصلي للإدراج بها، بمراعاة الظروف الوطنية.
كان المشرع المصري -وعدد من التشريعات المقارنة في الدول النامية- أسبق إلى النص على شرط وجوب الكشف عن المصدر لطلبات براءات الاختراع التي تستند إلى موارد بيولوجية أو وراثية.
إذ نصت المادة 13/3 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002 على وجوب الحصول بطريقة مشروعة على مصدر المواد البيولوجية، أو المعارف التقليدية، أو التراثية الحضارية، أو البيئية، متى كان طلب الحصول على البراءة متعلق باختراع يتضمن واحدة على الأقل من هذه المواد.
وإن كنا نتوافق مع ما ذهب إليه إقتراح الاتفاقية -محل المفاوضة- من عدم إمكانية توفير حماية مباشرة للموارد الوراثية بصورتها الموجودة في الطبيعة باعتبارها ملكية فكرية؛ لافتقارها إلى الإبداع البشري.
إلا أنه وبمنطق ما دعا إليه مدير عام الويبو في كلمته الافتتاحية للمؤتمر الدبلوماسي من مزج العاطفة مع البراجماتية، والتحلي بروح المرونة والتكيف لتحقيق اتفاق تاريخي؛ ينهي مرحلة من مراحل التصارع والتجاذب بين دفاع دول نامية ثرية بمحتوى ثقافي وتراثي، وبين هجوم دول متقدمة متعطشة إلى الاغتراف من هذا المحتوى واستغلاله دون رقيب.
فإننا نأمل أن تتضمن الاتفاقية فتح الباب أمام حماية المعارف التقليدية المرتبطة بالموارد الوراثية التي تمارسها الجماعة المحلية، وهي لا تفتقر إلى الإبداع البشري، المعبر عن هوية الجماعة المحلية؛ لتكتسب الجماعة المحلية حقوق الملكية الفكرية عليها، وهو ما يتوافق مع المطروح للنقاش –والمأمول- بخصوص الصك الدولي الآخر المنتظر الاتفاق عليه –قريبًا- بشأن حماية أشكال التعبير الثقافي التقليدي.
ونأمل أن يتمثل ذلك من خلال تعديل المادة التي تنص على جواز التشاور مع الشعوب الأصلية والجماعات المحلية وأصحاب المصلحة، بشأن إنشاء أنظمة معلومات وقواعد بيانات المواد الوراثية والمعارف التقليدية المرتبطة بها، لينص على مراعاة تقاسم المنافع المتحققة عن براءات الاختراع المستندة إلى معارف تقليدية، وليس تقاسم المعلومات فحسب، إعمالًا لذات المنطق الذي نصت عليه المادة المقترحة ذاتها من “مراعاة الظروف الوطنية”.
إن المنتظر والمأمول من المؤتمر الدبلوماسي المنعقد حاليًا في جنيف تاريخي وجدٌّ مهم للتعددية المستفيدة من حقوق الملكية الفكرية؛ فالأمر المتناقش حول تنظيمه لا يخص فئة من فئات الجماعات المحلية وحدها، وإنما يشكل تنظيمًا لمعارف وهوية الشعوب والجماعات بشكل مباشر، وحماية لمعارف انتقلت بين أجيال وأجيال معبرة عن الهوية المجتمعية، تلك التي تميز مجتمعًا عن آخر وشعبًا عن غيره.
آملين ومؤمنين أن ما سينتهي إليه الوفد المصري المشارك في هذا المؤتمر نحو التوقيع على الاتفاقية الجديدة، وما سيتبعها من إجراءات قانونية ونقاشات مجتمعية، لا يستهدف إلا تحقيق المصلحة الوطنية لمصرنا الحبيبة.
رسالة مطولة من مصطفى بكري للرئيس السيسي بمناسبة ذكرى ميلاده
وجه الإعلامي والبرلماني مصطفى بكري، حديثه للرئيس عبد الفتاح السيسي مهنئا إياه بقرب حلول ذكرى ميلاده الذي يوافق التاسع عشر...
Read more