تجديد الخطاب يجب أن يشمل كل ما يؤثر فى بناء الإنسان
المتحدثون عن تجديد الخطاب الدينى لا سواه والخطاب الدينى الإسلامى لا غيره لا يدركون المعنى الحقيقى لما يثرثرون فيه
السُّنة النبوية مكملة للقرآن فى بيان الأحكام الشرعية واستبعادها هدم للإسلام
الأزهر الشريف قام بدور كبير فى التنوير وإزاحة تلال الظلام التى خيمت على عهود الجمود
لا وصاية للأزهر الشريف ولا يعطيه القانون إياها فـ«لا كهانة» فى الإسلام
الإمام محمد عبده ليس الوحيد بين أئمة وشيوخ الأزهر الذين سعوا إلى الإصلاح والتجديد
الخطاب للغير أمانة ومسئولية لا يجوز أن يتصدر لها إلا المؤهلون
تطفو على سطح الحياة السياسية والثقافية من وقت إلى آخر دعوات لتجديد الخطاب الفكرى والدينى، وتندلع المعارك حول من يقود خطاب التجديد حينها، وقضايا التجديد ذاتها فى غالبية الأحوال.
وبين كر وفر لا تحط المعركة أوزارها، ربما تخفت حدتها بعض الوقت، لكن سرعان ما تتجدد بين فريق يحمل شعار الحداثة والتجديد للخروج من ركود الأفكار التى تثقل كاهل المجتمع وتحد من انطلاقه لتجاوز واقع صعب يتطلب النهوض، وفريق يتصدى له، ويقول إن دعوته وشعاراته هى كلمات حق يراد بها باطل، فهى تريد هدما لمبادئ وقواعد سار عليها المجتمع لمئات السنين، والعقيدة الدينية فى القلب منها. فيما يبقى ضلع المثلث الأخير والأهم، وهو «الجمهور العام» ينتظر انقشاع غبار المعارك الفكرية والثقافية المتماسة مع القضايا الدينية، حتى يعرف أين يضع أقدامه فى الميدان.
وفى هذا الكتاب «تجديد الفكر والخطاب الدينى» الصادر عن «دار أخبار مصر» يقدم مؤلفه المفكر ونقيب المحامين الراحل رجائى عطية، رؤيته لها القضية الشائكة، عبر تجربته الطويلة كمحامٍ مرموق، واضطلاعه بقضايا الشأن الإسلامى فقد كان، رحمه الله، عضوًا فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامة وخبيرًا بهيئة كبار علماء الأزهر الشريف.
تحت عنوان تمهيدى «عن مفهوم التجديد» يدخل الأستاذ رجائى عطية إلى عرض وشرح وجهة نظره بشأن الدعوة إلى تجديد الخطاب الفكرى والدينى، قائلًا: «إن الحديث الدائر عن التجديد، يخص أصحابه، الخطاب الدينى لا سواه، ويخصون بالخطاب الدينى الدين الإسلامى لا غيره، ولا أحسب أن كل المتحدثين يدركون المعنى الحقيقى الواجب فهمه لما يثرثرون فيه».
ويشير إلى أن التجديد واجب بلا مراء، لكن إطاره أوسع كثيرًا مما تظن النوايا الحسنة، أو النظرات السطحية التى لا تتعمق فى الأمور. ويتساءل عن التجديد المطلوب؟ قبل أن يجيب: «ينبغى ألا ينحصر التجديد فى الخطاب، بل إن التجديد واجب فى الفهم والتطبيق قبل الخطاب، ولا ينبغى كذلك أن ينحصر التجديد فى الخطاب الدينى، فالتجديد واجب فى الفهم والتطبيق لكل الأفكار والمجالات، وهذا التجديد فى الفهم والخطاب لا يقتصر على الإسلام، بل إن تجديد الفهم والخطاب واجب فى كل دين.. فى الإسلام، وفى المسيحية، وفى اليهودية».
وإذن الواجب، كما يقول عطية، هو التجديد فى الفهم والخطاب فى كل الفروع، لا فى الدين وحده.. مطلوب تجديد الفهم والخطاب التعليمى، الثقافى، الإعلامى، التربوى، البيئى، والقانونى، وفى كل فرع من الفروع له تأثير فى بناء الإنسان وفى قيمه وأخلاقه وسلوكه.
ثم ينتقل المؤلف بالحديث عن تجديد الفهم والخطاب فى المجال التعليمى والتربوى، ويقول إن المجال التربوى يطول ويتفرع الحديث فيه، لأنه فى الواقع يشمل المجتمع بأسره، فى الأسرة وفى المدرسة والمعهد، وفى الورشة والمصنع، وفى الريف والحقل والبستان، وفى كل مجال يأخذ النشء قيمه فيه من التربية والتنشئة. ويضيف: «لا يقل التعليم صعوبة لتجديد الفهم والخطاب فيه، ومجال هذا التجديد معظمه فى العلوم الإنسانية كاللغة والدين والأدب والتاريخ والجغرافيا وما إليها».
ولشرح فكرته حول حول تجديد الفهم والخطاب فى المجال التعليمى والتربوى، يقول: «أيامنا كنا نجد على كتب الأدب والمحفوظات واللغة، أسماء أساتذة كبار اختاروا بعناية كل نص وكل قطعة وكل منظومة، فكنا نرى مثلًا أسماء أحمد أمين، طه حسين، محمد أحمد جاد المولى، عبدالسلام هارون، على البجاوى، إبراهيم الإبيارى، محمد عوض محمد، على الجارم، عبدالعزيز البشرى، أحمد ضيف، شوقى ضيف، عبدالوهاب عزام، محمد خلف الله، أحمد الإسكندرى، وأحمد الحوفى، وقامات وأساتذة على هذا القدر من العلم والمعرفة، ولست أعرف من حل الآن محل أمثال هؤلاء، فى إعداد الكتب المدرسية والتعليمية».
كما كانت النصوص والقطع المختارة للحفظ أو للدراسة منتقاة بعناية تعبر عن منهج وقيم، ووفقًا لخطة تقسم الدراسة بين العصور المتتالية، والموضوعات والأغراض المختلفة.. ما بين البيان، والنقد، والخطب، والحوار، والرسائل، والقصة، والحديث، والنوادر والملح، والنثر، والشعر وأغراضه والموازنات، والسرقات فى الشعر، ودراسة كبار الأدباء والشعراء والعلماء والمؤرخين، ووراء كل اختيار غاية.
يواصل: «كنا نحفظ لشاعر النيل حافظ إبراهيم منظومات عن مصر، وعن رعاية الطفل، وعن عمر بن الخطاب الذى راع صاحب كسرى أن رآه مشتملًا ببردة كاد طول العهد يبليها، وعطلًا بين الرعية وهو راعيها، بينما عهده بملوك الفرس أن لها سورًا من الجند والأحراس يحميها، ونحفظ نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقى، وأندلسياته (….) فكانت الدراسة مشفوعة بمنهج مدروس يحرص على زراعة القيم النبيلة وتوسيع الفهم والمدارك».
تجديد المناهج
وفى إطار تناوله أيضًا لتجديد الفهم والخطاب فى المجال التعليمى والتربوى انتقل عطية بالحديث من النظام التعليمى العام، إلى تناول جهود الأزهر الشريف فى تجديد مناهجه، قائلًا: «لا مراء أن الأزهر احتاج ويحتاج إلى جهد مضاعف لضبط المناهج وتنقية بعض ما أفلت إلى بطون الكتب والمناهج خلال ألف عام، لكن الذى لا يعرفه من يهاجمون الأزهر ـ أن الإصلاح والتجديد جاريان فيه قبل سنين طويلة، وأن هذا الدور الإصلاحى لم يقتصر كما يظن البعض على الإمام محمد عبده، ولا شك أنه قام بدور عظيم، لكنه ليس الوحيد بين أئمة وشيوخ الأزهر الذين سعوا، ويسعى الأحياء منهم للآن، إلى الإصلاح والتجديد».
ويضرب عطية مثلًا بمن حملوا لواء التجديد فى الأزهر، قائلًا: «إن من أعلام الإصلاح والاجتهاد والتجديد، تمثيلًا لا حصرًا، الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر وأستاذ الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى صاحب الدور الكبير فى التجديد، ومن أعلام الاجتهاد والتجديد الشيخ أحمد إبراهيم، والشيخ محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، والشيخ عبدالوهاب خلاف، والشيخ على الخفيف، والشيخ محمد أبوزهرة، والشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الأزهر وأستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، والشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز، والشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر، والمرحوم الدكتور محمد رجب البيومى، وغيرهم آخرون لاقوا ربهم، وكوكبة من الشيوخ الأجلاء الأحياء منهم ـ على سبيل المثال ـ الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى».
الأزهر والتنوير
وفى رأى عطية قام الأزهر الشريف، ودون ادعاء العصمة له أو لبنيه، بدور كبير فى التنوير وإزاحة تلال الظلام التى رانت فى عهود الجمود والتراجع والهبوط، و«حسبك أن تعرف أن نهوض الأزهر الشريف بهذه المهمة الجليلة لم يبدأ بالأستاذ الإمام محمد عبده، ولا انتهى دوره بما أداه، وإنما سبق الأستاذ الإمام علماء أجلاء من أبناء الأزهر، نهضوا برسالتهم فى التنوير، ذكرت أسماء بعضهم تمثيلًا لا حصرًا، ووازى هؤلاء آخرون قاموا بدورهم فى التنوير وإزاحة تلال الظلام، وتلاهم ولا يزال علماء أجلاء يواصلون أداء هذه الرسالة، بلا استعراض ولا ضجيج ولا دعاية، ويعكفون فى إخلاص على إزاحة تلال الظلام المتراكمة وتجلية وجه الإسلام الصحيح، والدعوة إليه».
وتأكيدًا لفكرته حول تجديد المناهج فى الأزهر فى السنوات الأخيرة، يقول: «الذى أعرفه بحكم عضويتى فى مجمع البحوث الإسلامية، وإلحاقى بهيئة كبار العلماء ضمن ذوى الخبرة، ومتابعتى للدراسات الإسلامية ـ أن مراجعة مناهج الأزهر فى جميع المراحل التعليمية جارية على قدم وساق، وأن هناك الكثير من الفتاوى المهمة فى إطار تجديد الفهم والخطاب الدينى، قد صدرت فعلًا وعلى مدى سنوات عن مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء ودار الإفتاء، والمهم أن يعتنى الخطاب الإعلامى والثقافى بتوصيلها إلى الناس، وظنى أن هذا من أوجب واجبات الخطاب الإعلامى والخطاب الثقافى».
الخطاب الدعوى والوعظى
ومن المجال التعليمى والتربوى ينتقل صاحب كتاب: «تجديد الفكر والخطاب الدينى إلى قضية تجديد الفهم والخطاب الدينى فى الإطار الدعوى والوعظى، مشيرًا إلى أن المسألة لا تزال تحتاج إلى جهد أكبر، سواء فى المزيد من تأهيل الدعاة وإنماء ثقتهم فى الارتجال دون تقييدهم بالخطب المكتوبة أم بالنظر فى ترشيد النشاط الدعوى الخاص حالة كون ميدان الدعوة والوعظ مفتوحًا بحكم الحرية وطبائع الأشياء، ترتاده مستويات ونوعيات شتى فى العلم والفهم، وكلٌّ يعبر وفق علمه وفهمه، وتكوينه النفسى أيضًا، وربما أغراض لا يخلو منها بشر».
وعلى الرغم من اختلاط الأمور وعدم التفرقة بين الغث والسمين فى مجال الدعوة والوعظ المفتوح يقول عطية فى كتابه «غير مستطاع حجب من يرتادون هذا الميدان مهما كانت سلامة النوايا والمقاصد فى مناقشتهم فيما يعرضون أو يفتون، فما أسرع الادعاء بأن هذه مصادرة لا تجوز، ووصاية غير مقبولة، ويتصل بذلك مؤلفات تصدر من وقت إلى آخر تصب فى غير القناة الصحيحة والفهم السوى والتجديد الواجب، وبعضها تردَّى فيما هو أفدح؟».
وعن دور المؤسسة الدينية الأولى فى هذا المضمار، يقول: «لا يستطيع الأزهر الشريف، ولا يملك سلطة مصادرة أو حجب هذه المؤلفات الغثة، وقصارى ما يملكه أن يُبْدَى رأيه وملاحظاته إذا طُلب ذلك منه رسميًّا من الهيئات القضائية وما إليها، وهو رأى يُبْدَى من خلال القنوات الرسمية ومقصور عليها، ولا يُدفع به إلى الإعلام حرصًا على نفى أى شبهة قد يثيرها البعض بغير حق عن وصاية الأزهر، فالأزهر الشريف لا وصاية له، ولا يعطيه القانون إياها، بل فى مقدمة العلوم الجارى تدريسه فيها أنه «لا كهانة» فى الإسلام».
وعقب الإشارة إلى دور وسائل الإعلام وما قامت به الإذاعة المصرية والتليفزيون من إسهامات مهمة فى عرض الخطاب الرشيد، يلفت النظر إلى أن هناك آلافًا من الزوايا التى ينشئها أرباب الخير لا تزال يحتاج الوعظ فيها إلى توجيه، محذرًا من أن الحقل الإعلامى «مبتلى بهواة يجترئون على الدين بغير فهم حتى وإن حسنت نوايا البعض، وليس سرًّا أن محاولات تقنين الفتاوى التى يدلى بها من يعرف وغالبًا من لا يعرف، لم تنجح حتى الآن فى وقاية المجتمع من فوضى هذه الفتاوى».
«واحدية الفهم وتعدد الخطاب من منظور التجديد».. تحت هذا العنوان الفرعى يبحر عطية فى عرض أفكاره بشأن التجديد فى الفهم والخطاب عبر نظرة فلسفية يشير فيها إلى أن «الفهم أساس ضرورى ولازم لأى تجديد، والفهم الصحيح يجب أن يسبق الخطاب، ومقصدى بواحدية الفهم ليس حصره فى فهم واحد؛ فالأفهام بدورها متعددة بل متفاوتة بين الناس، ولكن الفهم واحد لدى الشخص الواحد، تصب فيه حصيلة قراءاته ونظراته ومراجعاته وتأملاته، ويمثل هذا الفهم «القاعدة» التى يصدر عنها خطابه.. بيد أن الخطاب «متعدد» برغم أنه يصدر عن «فهم واحد»، ومرجع تعدده إنما هو إلى تعدد توجهاته، فإذا كانت القاعدة التى تعلمناها من الصغر أن البلاغة هى موافقة الكلام لمقتضى الحال، فإن ذلك يقتضى لزومًا تغاير الأسلوب وترتيب الحجج بالنظر إلى توجه الخطاب».
ويوضح فكرته أكثر، قائلًا: «الخطاب ـ وأعنى هنا الدينى فى المقام الأول ـ الموجه إلى المسلم قد يختلف فى بعض عناصره وأسلوبه عن الخطاب الموجه إلى غير المسلم، والخطاب الموجه إلى الوطنى غير الموجه إلى الأجنبى، والخطاب للشارد الجانح المتطرف يختلف بالقطع عن الخطاب الموجه إلى السوى الوسطى المعتدل، وخطاب الرجل يختلف فى أسلوبه وعرضه عن الخطاب الموجه إلى المرأة، كذلك الاختلافات بين الأعمار والمراحل، ما بين الصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، وما بين المتعلم والأمى، وما بين العالم العارف وغير العارف أو الجاهل، فالخطاب إلى كلّ من هؤلاء يسعى إلى موافقة مقتضى حال المخاطب أو المخاطبين؛ ليُحدث الخطاب أثره المنشود فى التصحيح أو التصويب أو التنوير».
ولكن لمن يكون الخطاب؟ يجيب عطية: «باب الخطاب مفتوح بحكم الواقع الحاصل، وبحكم طبائع الأشياء أيضًا، وبحكم كونه قضية مجتمعية يسهم فيها كلٌّ بقدر معرفته ومستطاعه، بيد أن ذلك لا يعنى أن يتحدث غير القادر فيما لا يقدر عليه أو فيما لا يحسنه، فمدرس الحساب لا يستطيع أو لا يحسن خطاب اللغة، ومدرس الجغرافيا والتاريخ، لا يحسن وقد لا يستطيع أن يتحدث فى الحساب والرياضيات والعلوم الطبيعية والأحياء، ومدرس اللغة لا يحسن وقد لا يستطيع الحديث فى غيرها، ناهيك عن بث قيم الاستنارة والتجديد».
وردًا على سؤال افتراضى: «هل الإسلام يعرف الوساطة بين العبد وربه؟» ويجيب: «لا يعرف الإسلام ولا يقر سلطة دينية، فلا سلطان فى الإسلام لأحبار أو أشباه الأحبار، ولا يتوسط فيه سدنة بين المخلوق والخالق، ولا محل فيه لقربان يقدم فى محاريب أو فى غيرها، ولا دور ولا وساطة فيه لكُهَّان، وعلاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة بلا واسطة، بلا سلطان ولا وصاية لأحد أو لمن يدعى الحديث باسم الله».
إذن خطاب القرآن يتجه مباشرة إلى الإنسان العاقل المسئول، الطليق من أى سلطان يحول بينه وبين الاتجاه إلى ربه، أو يقعده عن الفهم القويم والتفكير السليم. ولا يلتزم الإنسان بالرجوع إلى أحد من أهل العلم، إلَّا بإرادته إذا شاء العلم بما لا يعلمه، فيقول القرآن المجيد: «فَسْـــَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (الأنبياء 7).
على أنه إذا كان الفهم محصلة حصاد شخصى للمكلف بينه وبين مصادر الشرع، إلَّا أن الخطاب الموجه إلى الغير أمانة ومسئولية، لا يجوز أن يتصدر لها إلَّا القادر عليها الذى يطمئن إلى علمه وإحاطته ومقدرته على الشرح والبيان.
فلأهل الذكر المنوط بهم تعريف غير العارف أو غير العالم، مكنات (قدرات) هى التى تؤهلهم للاضطلاع بهذا الواجب، وهذه المكنات لازمة لمن يتجاوز حواره مع النفس إلى حمل أمانة الخطاب الدينى إلى الغير، وهذه الدائرة ليست مغلقة، وإنما هى مفتوحة لمن يجتمع له العلم والمعرفة والفهم والإلمام بمبادئ وأحكام الدين، بدءًا من الإلمام باللغة ومعانيها ومفرداتها ونحوها وصرفها وصيغها وأسرار البيان فيها.
كما يقتضى الأمر دراسة القرآن الحكيم والسنة النبوية وأحكامهما، والإلمام بعلم الفقه وبعلم أصول الفقه، ولكل منهما دوره اللازم، فالفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أما أصول الفقه فهى العلم بقواعد استخراج الأحكام من الأدلة، أى الإلمام بالمناهج التى تحدد وتبين الطريق الذى يلتزمه الباحث فى استخراج أو استنباط الأحكام من أدلتها، وترتيب الأدلة من حيث درجتها وقوتها، فيقدم القرآن على السنة، ويرتب السنة على مراتبها من ناحية الثبوت والدلالة، ويقدم السنة على القياس وسائر الأدلة التى لا تقوم على النصوص مباشرة، بينما الفقه هو استخراج الأحكام مع التقيّد بهذه المناهج.
شروط واجبة
ما يود أن يبينه عطية من خلال شرح مفصل عن الشروط الواجب توافرها فيمن يتصدى للخطاب الدينى إلى الغير هو التأكيد على وجوب العلم بالدين شرط للخطاب الدينى إلى الغير؛ لأنه أمانة ومسئولية، قاصدًا أن نتلمس طريقنا معًا لنرى وجه الصواب فى الفوضى ضاربة الأطناب التى يلبس فيها لباس العلم بالدين والتفقه فيه ـ جهلاء، وأدعياء، وذوو أغراض، وليس بالأقل سوءًا الأنصاف المتعجلون السطحيون الذين لا يعطون لهذه الأمور الدقيقة حقها الواجب، ويعرِّضون البسطاء للحيرة والتشويش!
ويتابع: «لا شك أن الفرد مسئول أمام نفسه أن يبذل غاية جهده للفهم ولتحصيل العلم، إلَّا أن تفريطه فى هذا أو تقصيره فى بلوغ الغاية فيه، يُبقى مسئوليته محصورة فى شخصه، بيد أن مسئوليته تصير مضاعفة، وربما أضعافًا مضاعفة إذا تقدم بفهمه المشوش وعلمه الناقص إلى الغير. وهذه المسئولية محكومة بدورها بتصنيفات، فهى لا تجرى على وتيرة واحدة، ويحكم تصنيفها حُسن النية إن كان، أو سوء القصد وغرض الإضرار!
وعقب شرح مستفيض عن علم أصول الفقه، لـ«التعريف به بالقدر الذى يدرك به القارئ أن المتصدى لخطاب الغير بالدين، تلزمه إحاطة واسعة بالفقه، ومعرفة متخصصة بعلم أصول الفقه الذى هو المفتاح اللازم الآمن إلى الفقه»، يلج عطية إلى صلب القضية التى تتجدد بين حين وآخر حول القرآن الكريم والسُّنة النبوية كمصدرين للأحكام الشرعية، ودعوة البعض إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم أو من عرفوا بالقرآنيين.
يقول عطية: «بداهة لا يختلف مسلم على أن القرآن الحكيم هو كتاب الإسلام المبين، ومعجزته إلى الدنيا.. وحجة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى البشرية، ودستور المسلمين كافة فى كل شئون دينهم ودنياهم.. معجز فى بلاغته ورصفه وبيانه.. فى جرسه ومعماره الموسيقى ونظمه البديع وشحنته التى تملأ وتتغشى حنايا القارئ له.. معجز فى إخباره بأحوال القرون السابقة على تنزيله، وفى إخباره عن وقوع حوادث فى مستقبل لا يتأتى العلم بها إلَّا لعلَّام الغيوب.. ومعجز فيما اشتمل عليه من حقائق الكون وأسراره.. وفى اتساق عباراته ومعانيه، ودقة وشمول أحكامه وشريعته الجامعة التى يدرك إعجازها المسلم وغير المسلم، ويفهمها العربى وغير العربى.. من يعرف لسان القرآن ومن لا يعرفه.. القرآن المجيد هو دستور المسلمين الجامع فى كل شئون دينهم ودنياهم.. فى العقائد، والعبادات، والأحوال الشخصية، والمعاملات، والعقوبات، والشئون الدولية.. ليس من شىء إلَّا وفى القرآن المجيد بيانه».
ويستطرد فى الحديث عن أهمية السنة المشرفة، قائلًا: «إن القرآن المجيد لم ينزل به الوحى مباشرة إلى الناس، وإنما إلى رسول كريم اصطفاه الله لتلقيه وإبلاغ رسالته إلى العالمين.. الأنبياء هم حملة رسالات السماء، ومهمة رسول القرآن عليه السلام مستمدة من ذات القرآن».
وقد اقتضى المنطق، وحمْل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمانة الرسالة، وتكليفه وقيامه ببيانها إلى الناس، أن يكون هو المرجع فيها، وأن تكون سنته جزءًا لا يتجزأ من الرسالة.
فضلًا عن طبيعة الرسالة والآيات الصريحة التى وردت بالقرآن الحكيم ذاته، التى توجب طاعة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والتأسى والاقتداء به، والالتزام بأوامره ونواهيه.
فالقرآن الحكيم الذى ينادى القرآنيون بالاكتفاء به، هو الذى لفت الأنظار إلى طبيعة الرسالة ودور الرسول فى تبليغها، وفى بيانها بما يستوجب الرجوع إليه، والقرآن ذاته هو الذى أمر بطاعة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والتأسى به والالتزام بسنته.
وفى ختام شرحه لهذه القضية، يقول عطية: «إن استبعاد السُّنة، اختزال للدين، يحذف ركنًا أصيلًا من أركان المصدر الإسلامى فى الأحكام الشرعية، فالسُّنة النبوية مكملة للقرآن فى بيان تلك الأحكام، فهى التى تفصِّل ما جاء فى القرآن مجملًا، وتبين ما قد يصعب فهمه على البعض واستبعاد السُّنة، هو هدم للإسلام».