إتقان العمل والصنعة أمر من الله ورسوله، وهو مطلب شرعي، وواجب وطني، وعمل إنساني ومسؤولية مجتمعية، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، والكل مطالَب بهِ، والكل محاسَب عنه بين يدي الله. والإتقان يكون في أعمال الدين والدنيا، فلا يصح أن يكون الإنسان متقِنًا في أمور الدين، وليس متقِنًا في أمور الدنيا، فالقيام للصلاة من العبادات، والسعي في الأرض والكد والتعب من العبادات أيضًا، لهذا لا يعتري الإنسان العجب ولا الدهشة حين يجد بين دفتَي المصحف، أمرًا من الله تعالى بالانصراف من المسجد عقب قضاء صلاة الجمعة للعمل والكد والتعب: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة الجمعة ـ الآيتان: 9 و10].
فهاتان الآيتان توضحان المنهج القويم للدين الإسلامي العظيم، وسماته الرفيعة، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وشمولية منهجه، وتوازن أحكامه، ومخاطبته للعقل والروح والمادة، فلا يعتني بجانب ويهمِل الآخر، ولكنه يوازن بين متطلبات الروح والمادة واحتياجاتهما، فخلق نفوسًا سوية، ومجتمعات متحضرة، حال الأخذ بأسبابها، فقد حض الإسلام المؤمنين على الجمع بين أَداء العبادات والطاعات، والمحافظة عليها في أوقاتها، دون غفلة أو تضييع، وبين الحرص على العمل بجد وكفاح وإتقان، دون تضييع لأحدهما.
ويكفي كل صانع شرفًا أن الصناعة كانت حرفةَ بعض الأنبياء، فقد كان نبي الله إدريس – عليه السلام – خيَّاطًا، وكان نوح – عليه السلام – نجَّارًا، يصنع الفلك الذي اتخذه طريقًا للنجاة من الطوفان، وكان خليل الله إبراهيم – عليه السلام – بنَّاءً، وهو الذي بنى الكعبة – البيت الحرام – وعاونه في عملية البناء ولده إسماعيل – عليه السلام -، وكان داود – عليه السلام – حدَّادًا يصنع الدروع.
والله تعالى عظَّم قيمة العمل في أشد المواقف وأصعبها على الإنسان، ففي يوم قيام الساعة، الذي قال فيه سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [ سورة الحج: آية 2]، أمر النبي أمرًا مؤكدًا بالعمل وتعمير الأرض، حيث قال ﷺ: «إن قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةً، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها».
وإذا أتقن الإنسان العمل سُمِّي صانعًا أو محترفًا، وقد وردت مادة صنع في القرآن الكريم بمشتقاتها في عشرين موضعًا، حيث وردت في ستة عشر موضعًا بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: ﴿إن الله عليم بما يصنعون﴾ (فاطر: 8)، ووردت بصيغة الاسم في أربعة مواضع، منها قوله سبحانه: ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾ (النمل: 88). وأكثر ما وردت مادة صنع ومشتقاتها في القرآن بمعنى الفعل ـ خيرًا أو شرًّا ـ ومنه قوله تعالى: ﴿وحبط ما صنعوا فيها﴾ (هود: 16)، ومنه أيضًا قوله سبحانه: ﴿ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة﴾ (الرعد: 31)، ومنه أيضًا قوله سبحانه: ﴿وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا﴾(الكهف: 104)، وجاءت مادة (صنع) في موضع واحد بمعنى البناء والتشييد، وذلك قوله تعالى على لسان نبيه هود عليه السلام مخاطبًا قومه: ﴿وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون﴾ (الشعراء: 129).
فيا أمتنا الإسلامية، لن تقوم لنا قائمة، ولن ينصلح لنا حال، إلا بما صلح به عصر النبوة والصحابة والتابعين، الذين عملوا بكل جد وإخلاص وإتقان في أمور دنياهم كأنهم يعيشون أبدًا، وفي الوقت نفسه عملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدًا، فيا ليتنا ننتبه جميعًا، قبل أن نندم بعد فوات الأوان، وحيث لا ينفع الندم.
[email protected]