أيام قليلة وتنتهى الولايات المتحدة من دوامة الانتخابات الرئاسية التى تمتد لأكثر من عام عبر مراحل تمهيدية وختامية متعددة، ومنافسة تميزت بأنها بين مرشحين غير مرحب بهما فى الأساس، ما جعل الناخب الأمريكى أمام الاختيار بين ما هو متاح أو الأقل نفورًا.
أول المرشحين هو الجمهورى دونالد ترامب، وهو مرشح غير تقليدى، فرض نفسه على الحزب بقوة شعبويته، فى مرحلة يبحث فيه الحزب الجمهورى عن ذاته السياسى، وبعد أن فقد نقطة الارتكاز التقليدية يمين الوسط السياسى الأمريكى، وجاء ترامب مرشحًا للمرة الثانية، وبعد أن صدرت ضده أحكام قانونية، لعدم وضوح الرسالة السياسية للحزب الجمهورى، ومن ثم غياب مرشحين متميزين يحملون الراية التى يلتف حولها الحزب تقليديًا.
والمرشح الآخر عن الحزب الديمقراطى هى نائب الرئيس كامالا هاريس من ولاية كاليفورنيا، التى فشلت فى الفوز بالترشيح للانتخابات السابقة، والتى اختيرت على عجالة ودون منافسة بعدما تعثر أول المرشحين الرئيس جو بايدن فى المجادلة مع منافسه، وبات واضحًا تقدم عمره وانعكاس ذلك على كفاءته الذهنية والجسمانية، بما لا تتسق مع الصورة التقليدية والصحة والعافية المطلوبة لتمثيل الولايات المتحدة كقوة عظمى عامة، خاصة فى ظل ظروف دولية بالغة الصعوبة والاضطراب، وحربًا مع روسيا ومنافسة شرسة قادمة مع الصين.
وهناك مؤشرات سياسية عديدة أخرى تعكس أن هناك عدم استقرار وإعادة تشكيل فى الساحة السياسية الأمريكية، مع عدم ارتياح نسبة كبيرة من الناخبين من ممارسات الحزبين، ما قد يجعل نتيجة الانتخابات الرئاسية والنيابية تحسم وفقًا لتوجهات فئات مختلفة، عما اعتدنا من الناخبين.
من الدلائل لوجود تغير فى اهتمامات وتوجهات الناخب الأمريكى والغرائب فى هذه المنافسة الانتخابية، أن أحد المرشحين الآخرين كان جو كيندى نجل النائب العام الأمريكى السابق بوبى كيندى، الذى ارتبطت عائلته بالحزب الديمقراطى بقوة وطويلًا، والذى اختار تأييد ترشيح ترامب وليس هاريس بعد انسحابه من المنافسة أخيرًا باعتبار أن النظام السياسى الأمريكى لم يعد مؤهلًا، ويحتاج إلى تغيير جوهرى.
ومن قراءة الساحة السياسية الأمريكية يتضح أن الحزب الجمهورى قد جنح يمينًا عما مضى، وأن منافسه بالحزب الديمقراطى اتجه نحو اليسار السياسى، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية مثل الإجهاض ودون الحكومة الاجتماعية، وترامب وأغلب نجوم الساحة الجمهوريين يميلون نحو اليمين وبقوة، وهو أكثر صفة تستغل ضده من قبل الديمقراطيين على أساس أنه يتبنى مواقف بها استعداء لجزء من المجتمع الأمريكى، فى حين أن هاريس تحسب على التيار الليبرالى الأمريكى، ولا يفوت ترامب أى فرصة دون الإشارة إلى أن مواقفها السابقة تعتبر دليلًا قاطعًا على مواقفها الليبرالية بل الاشتراكية، بغية تحميس الوسط الجمهورى الالتفاف حوله كخيار أفضل.
تبارى كل مرشح فى إبراز نقاط ضعف منافسه وهو أمر تقليدى، وإنما تجاوز الأمر ذلك كثيرًا، حيث شكك كلاهما فى القوة العقلية والاستقرار الذهنى للطرف الآخر، وأصبح الناخب الأمريكى مطالبًا الآن ليس بتأييد مرشح تقديرًا لسياساته ومواقفه، وإنما لأن البديل وسياساته أسوأ وأخطر فى وجهة نظره وغير مستقر عقليًا.
من الغرائب ومؤشرات الاضطراب والتردد كذلك أن الناخبين من أصل لاتينى لا يزالون يفضلون ترامب على هاريس رغم مواقفه المتشددة تجاه المهاجرين وسعيه للضغط على بعضهم لترك الولايات المتحدة، ومقابل ذلك يستغرب أن هناك فئة خاصة من السيدات العاملات المترددة والمتأرجحة فى تأييد هاريس، رغم مواقف ترامب المعارضة للإجهاض والأحكام الصادرة ضده المرفوعة من عدد من النساء.
• • •
جرت العادة أن تُحسم الانتخابات الأمريكية، وترجح إلى صالح من ينجح فى جذب نسبة الناخبين المتأرجحين على يسار الحزب الجمهورى وعلى يمين الحزب الديمقراطى للتصويت لصالح مرشح، إلا فى حالة الفوز الساحق وبنسبة كبيرة، ويغلب على تصويت هؤلاء اعتبارات موضوعية ومواقف محددة حول الأوضاع والتوجهات الأمريكية العامة، باعتبار أن اليسار الجمهورى واليمين الديمقراطى كلاهما وسطى ومقتدر اقتصاديًا.
والمستجد فى انتخابات الأسبوع المقبل أن كثرًا يؤيدون مرشحًا ليس تقديرًا لمواقفه، وإنما لتحفظهم بشكل أكبر على المرشح الآخر، ويتوقع أن ترجح النتيجة لصالح من ينجح فى جذب أكبر نسبة من الناخبين الجدد من أقصى اليمين واليسار مع أقل خسارة من رصيده فى الأصوات التقليدية لحزبه.
هذا يعنى أن على هاريس تشجيع اليسار الديمقراطى للمشاركة فى الانتخابات بنسب أكبر، دون أن تخسر الوسط الديمقراطى المتأرجح، والذى يخشى الليبرالية الاقتصادية المتزايدة، وعليها تشجيع الأمريكيين العرب ومؤيديهم على المشاركة فى الانتخابات، رغم تحفظاتها على مواقف إدارة بايدن من أحداث غزة، من منطلق أن عدم المشاركة على الإطلاق سيضعف من فرصها أمام ترامب الخيار الأسوأ بالنسبة لهؤلاء.
ويشجع ترامب الطبقة دون الوسطى من الذكور للمشاركة فى الانتخابات، على عكس مواقفهم السابقة ورفضهم الانغماس فى المنظومة السياسية الأمريكية جمهوريًا أو ديمقراطيًا التى لا تهتم بمصالحها، وهو أمر يركز عليه ويجعله يزيد من لهجته الصدامية أو يقلق الوسط، ويستثير اليسار الجمهورى، ويحد من فرص جذب لأصواتهم المهمة فى الانتخابات حتى وإن لم تكن الحاسمة فيها هذه المرة.
كل هذه الاعتبارات وغيرها تدخل فى حسابات المتابعين للعملية الانتخابية الأمريكية، وهى على رأس اهتمامات المشاركين فيها، وتشير إلى أن السباق الانتخابى سيحسم بنتيجة متقاربة، مما يزيد من أهمية الأصوات المتأرجحة على أقصى يمين ويسار الحزبين، وكذلك فى الوسط السياسى، مما يزيد من أهمية ما تسمى الولايات المتأرجحة الـ7، التى تغيرت الأغلبية فيها بين الحين والآخر، فى ضوء أن النتيجة تحسم لصالح من يحصل على ٢٧٠ صوتًا فى المجمع الانتخابى.
هذه الولايات، هى: بنسلفانيا، جورجيا، كارولينا الشمالية، ميشيجان، أريزونا، ويسكونسن، نيفادا، بإجمالى ٩٣ مقعدًا فى المجمع الانتخابى، وسبق أن فاز المرشح الديمقراطى بايدن بست منها فى انتخابات ٢٠٢٠، ووفقًا لاستطلاعات الرأى العام الأخيرة ما زالت هاريس متقدمة فى خمس منها، وإنما بنسب أقل مما فاز به بايدن فى الانتخابات الأخيرة، فى حين أن ترامب يتقدم الآن فى كارولينا الشمالية التى فاز بها سابقًا، وكذلك فى أريزونا كما أن نسبة التفاوت مع هاريس قلت.
ومن الصعب ترجيح فوز مرشح على الآخر، قبل الانتخابات بأقل من أسبوع، وإنما سيجد الفائز مجتمعًا أمريكيًا مستقطبًا غير حاسم فى توجهاته، وغير متحمس للانغماس فى مشروعات دولية طموحة تحمله مسئوليات ونفقات باهظة، وكلاهما سيكون براجماتيًا فى السياسة الخارجية، وفقًا حسابات توازن القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، مع تبنى هاريس سياسات أقرب إلى المواقف الديمقراطية التقليدية، لأن طموحاتها ستشمل إعادة الانتخاب لولاية ثانية، وإدارة بايدن ستكون أقوى وأكثر حسمًا فى الأشهر المقبلة وقبل انتقال السلطة لها، فى حين ترامب غير مؤهل للانتخاب مرة أخرى باعتباره رئيسًا سابقًا، لذا يصب اهتمامه على ترسيخ مكانته السياسية كطرف ناجز ومؤثر يمينى التوجه غير مقيد بمواقف تقليدية، وإنما لا يميل إلى مغامرات خارجية، وانتخابه سيجعل إدارة بايدن «بطة عرجاء» وفقًا للتعبير الأمريكى، وأقل تأثيرًا عما مضى باعتبار أنه لم يبقَ على عمرها سوى شهرين.
نقلا عن: إندبندنت عربية