أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، اليوم، قرارا تاريخيا بأوامر اعتقال ضد رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت والقيادي بحركة حماس محمد الضيف، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية. وتعتبر ملاحقة نتنياهو وجالانت حدثا مهما للغاية في سياق القانون الدولي الإنساني أيضا، لكونه الأمر الأول من نوعه الذي يصدر ضد قيادات سياسية على أعلى مستوى في إسرائيل على خلفية تطورات القضية الفلسطينية.
ولكن ما الذي يمكن أن يترتب على هذا القرار؟ وهل أوامر الاعتقال إلزامية التنفيذ؟ ومن الدول والجهات المُخاطَبة بها؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور القادمة.
– ماذا يعني صدور أمر باعتقال نتنياهو وجالانت؟
= هذا الأمر يعني أن الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية قد اقتنعت بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت ارتكبا جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، وأنها ترى ضرورة القبض عليهما ومثولهما أمامها لضمان حضورهما شخصيا، وعدم قيامهما بعرقلة التحقيقات أو التأثير على إجراءات المحكمة، ولمنعهما أيضا من الاستمرار في ارتكاب الجرائم المنسوبة إليهما بحق الشعب الفلسطيني.
وهذه السلطة تتمتع بها المحكمة بموجب المادة 58 من نظام روما الأساسي الذي يحكم عمل المحكمة والدول الأطراف بها فيما يخص ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية ومساءلتهم.
– ما الدول والجهات الملتزمة بتنفيذ أمر اعتقال نتنياهو وجالانت؟
= يترتب على صدور المذكرة إلزام الدول الـ125 الأعضاء (حاليا) في نظام روما الأساسي باعتقال نتنياهو وجالانت إذا وصلا أراضي تلك الدول، مما سيؤدي إلى تقييد حركتهما بين دول العالم، كما حدث من قبل –نسبيا- مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني الأسبق عمر البشير اللذين امتنعا عن زيارة العديد من الدول بعد صدور أمر الاعتقال بحق كل منهما عامي 2023 و2015 على التوالي.
وتشمل قائمة الدول الملزمة باعتقال نتنياهو وجالانت جميع دول أمريكا الجنوبية، وجميع دول أوروبا عدا الفاتيكان وموناكو، و33 دولة أفريقية منها جنوب أفريقيا وناميبيا وتنزانيا وغانا، وكندا والمكسيك وأستراليا وفلسطين.
علما بأن أمريكا وروسيا سحبتا توقيعهما على المعاهدة، وبالتالي يمكن لنتنياهو استئناف زياراته إلى الولايات المتحدة.
بينما وقعت إسرائيل على تلك المعاهدة ولم تتم إجراءات التصديق شأن مصر والجزائر وإيران ودول عدة، بينما لم توقع الصين والهند وباكستان والسعودية وإثيوبيا على تلك المعاهدة من الأساس.
– ما موقف الدول عموما من مذكرات الاعتقال السابقة؟
= يجوز للدول التي لم تتضم إلى نظام روما، إذا أرادت، أن تتعاون في اعتقال المتهمين المطلوبين للمثول أمام المحكمة.
لكن السوابق تشير إلى أن العكس هو ما يحدث وأن بعض الدول الأعضاء هي التي تتراخى في تنفيذ أوامر الاعتقال كما حدث عندما زار بوتين منغوليا وغادرها بسلام في سبتمبر الماضي الماضي، ولم تملك المحكمة إلا أن تصدر بيانا يعرب عن استيائها.
يُذكر أن الرئيس اليوغوسلافي الأسبق سلوبودان ميلوسوفيتش كان أول زعيم عالمي يمثل أمام المحكمة في لاهاي عام 2001، وتبعه زعيم صرب البوسنة رادوفان كاردزيتش الذي مثل أمامها عام 2008 بعد فراره لنحو 12 عاما، وواجها اتهامات أقل عددا واتساعا من تلك المنسوبة اليوم إلى نتنياهو وجالانت، وإن كانت مماثلة لكونها جرائم ضد الإنسانية وأعمال إبادة وتطهير عرقي.
– هل معنى ذلك أن هذه المذكرة لا قيمة لها؟
= بالتأكيد لها قيمة قانونية وسياسية كبرى. فعلى الرغم من صعوبات التطبيق، وعدم استجابة بعض الدول لتنفيذ أوامر الاعتقال، إلا أنها تلعب دورا كبيرا في التضييق على المتهمين خاصة بعد ترك السلطة كما في حالة جالانت، لأن الاتهامات شخصية ولا تسقط بالتقادم.
ونلاحظ ذلك في تصريحات رسمية صادرة عن الاتحاد الأوروبي ودول مثل هولندا وفرنسا وبلجكيا أكدت احترامهم جميعا لأمر الاعتقال والتزامهم الكامل بدعم المحكمة الجنائية الدولية والاستجابة لطلباتها.
ولهذا الأمر بعد تاريخي باعتبار أن الدول الأوروبية كانت على رأس داعمي إنشاء هذه المحكمة التي تحتضن هولندا مقرها الرئيس، كما يمثل التمويل الأوروبي القسم الأكبر من ميزانيتها السنوية.
– ما الآثار السياسية المتوقعة على القرار؟
= يمكن القول بأن أمر الاعتقال يشكل ضغطا إضافيا على حكومة نتنياهو لوقف الحرب على غزة والتوصل إلى اتفاق مع حماس، بالنظر إلى التبعات المتوقعة من بعض المحاكم الأوروبية والعالمية التي يمكنها إصدار قرارات أو أوامر بالاعتقال أو اتخاذ تدابير تمس المصالح الإسرائيلية، وهو ما يدفع المسئولين الإسرائيليين إلى تصعيد هجومهم على المحكمة إلى حد الدعوة لفرض عقوبات عليها وعلى أعضائها.
من المتوقع أيضا تزايد التصعيد الإسرائيلي الداخلي لفرض المزيد من القيود على السلطة الفلسطينية وفرض السيطرة على الضفة الغربية وغزة.
أما دوليا فمن الوارد أن يزيد الضغط الأمريكي على المحكمة ويتجدد استهداف إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالرد ترامب لها، حيث توعّد مستشاره للأمن القومي مايك والتز بـ”الرد القوي على انحياز الجنائية الدولية والأمم المتحدة” فور تولي ترامب مهام منصبه.
علما بأن إدارة ترامب في ولايته الأولى كانت قد وقعت عقوبات على مدعية المحكمة السابقة فاتو بنسودا بسبب تحقيقها في ادعاءات ضد الجيش الأمريكي خلال احتلال أفغانستان، ثم قررت إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن رفع تلك العقوبات في أبريل 2021.
– ما أهم الاتهامات التي وجهتها المحكمة إلى نتنياهو وجالانت؟
= حملت حيثيات قرار المحكمة أقوى الاتهامات وأكثرها تنوعا في تاريخ القضايا المنظورة أمامها، حيث أكدت قيام أدلة معقولة وقرائن دامغة على مسئولية نتنياهو وجالانت الكاملة كرئيسين مدنيين عن الأعمال الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد السكان المدنيين في غزة والتي تمثل “جرائم (مزعومة) ضد الإنسانية وهجوما واسع النطاق وممنهج ضد المدنيين” بالإضافة إلى “الحرمان العمدي والواعي تماما” للسكان المدنيين من أشياء لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء والماء والأدوية والإمدادات الطبية، فضلاً عن الوقود والكهرباء، من 8 أكتوب 2023 إلى 20 مايو 2024 على الأقل، والأخير هو تاريخ طلب المدعي العام إصدار المذكرة.
واتهمت المحكمة نتنياهو وجالانت بلعب دور كبير في إعاقة المساعدات الإنسانية في انتهاك القانون الإنساني الدولي وفشلهما في تسهيل الإغاثة بكل الوسائل المتاحة لها، وبتعطيل قدرة المنظمات الإنسانية على توفير الغذاء وغيره من السلع الأساسية للسكان المحتاجين، وبفرض قيود غير إنسانية إلى جانب قطع الكهرباء وتقليص إمدادات الوقود، للتأثير الشديد على توفر المياه وقدرة المستشفيات على تقديم الرعاية الطبية.
وحمّلتهما المحكمة مسئولية عدم الوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي أو ضمان تزويد شعب غزة بالسلع التي يحتاجون إليها على النحو الكافي، وأن المساعدات الإنسانية التي قررا إدخالها بضغوط أمريكية لم تكن كافية لتحسين قدرة السكان على الوصول إلى الاحتياجات الأساسية.
وخلصت المحكمة إلى تحميلهما المسئولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، وجرائم القتل اللا إنسانية، وإلحاق معاناة شديدة بأشخاص يحتاجون إلى العلاج من خلال تقييد أو منع وصول الإمدادات الطبية والأدوية وعدم استغلال السلطة التي يتمتعان بها في اتخاذ تدابير متاحة لمنع أو وقف ارتكاب الجرائم.
– كيف ردت المحكمة الجنائية الدولية على اعتراضات إسرائيل ودول أخرى على تحريك القضية؟
= يعتبر هذا الأمر من أهم عناصر قرار اليوم. فقد رفضت المحكمة جميع الطعون المقدمة من إسرائيل، وكذلك الاعتراضات التي قدمتها بعض الدول كألمانيا وأمريكا والمجر بزعم أن اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية تحرم المحكمة من صلاحية ملاحقة مواطنين إسرائيليين بسبب جرائم ارتُكبت في فلسطين المحتلة.
وكانت تلك الدول قد زعمت أن اتفاقيات أوسلو الموقعة عام 1993 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية تفرض وضعا خاصا يترتب عليه تحصين مواطني إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وبالتالي فلا يجوز أن تبسط المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها على جرائم منسوبة إليهم وقعت في فلسطين.
ومنحت المحكمة أجلا طويلا لتبادل الآراء بين الدول والجهات المعنية والأكاديميين حول تلك المسألة، وانتهت إلى أنها تملك حق توجيه الاتهام إلى المواطنين الإسرائيليين، وأن أي تفاصيل منسوبة إلى اتفاقيات أوسلو لا تعطل تطبيق نظام روما الذي انضمت إليه فلسطين رسميا.
علما بأن انضمام فلسطين إلى نظام روما يعني اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالفصل في قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تقع على أراضي دولة فلسطين وكذلك من مواطني دولة فلسطين.
وأكدت المحكمة في إشارة واضحة للاعتراف بالوضع السيادي لدولة فلسطين أن إسرائيل وفلسطين طرفان موقعان على اتفاقيات جنيف لعام 1949، وأن القانون المتعلق بالنزاع المسلح غير الدولي ينطبق على القتال بين إسرائيل وحماس.