يتوازى الاحتفال بذكرى ميلاد السيدة أم كلثوم، مع الاحتفال باستقبال العام الجديد؛ حيث ولدت في 31 ديسمبر 1898 بقرية طماي الزهايرة في محافظة الدقهلية، واسمها فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي.
وبدأت أم كلثوم، مشوارها الفني مبكرًا حيث إنها في العاشرة من عمرها شاركت ضمن فرقة والدها الإنشادية في إحياء الحفلات بقريتها والقرى المجاورة، إلى أن اتسعت شهرتها مع استقراها في القاهرة بعد أغنية «الصب تفضحه عيونه» من كلمات أحمد رامي وتلحين أحد مكتشفيها الشيخ أبوالعلا محمد.
وعلى امتداد ما يزيد عن نصف قرن من حياتها الفنية، لم تؤثر أم كلثوم على أسماع المصريين فحسب، بل كان صوتها حاضرًا بقوة وممثلا لقوة مصر الناعمة في فترات عصيبة، لعل من أبرزها ما تلى “يونيو 1967″؛ حينما أحيت “الست” حفلات بكثير من بلاد العالم وتنازلت عن أجرها لخدمة المجهود العسكري المصري في حرب الاستنزاف والاستعداد لمعركة التحرير واستعادة الكرامة والأرض.
– رحلة موسكو ونهاية حزينة بفراق عبدالناصر
في جمعة خريفية باردة خلال شهر سبتمبر 1970، حطت للمرة الأولى طائرة مصرية تقل السيدة أم كلثوم بعاصمة الاتحاد السوفيتي موسكو ، خلال زيارة سريعة لم يكتب لها أن تكون إحدى الرحلات التاريخية الخالدة في سجل أم كلثوم والمجهود الحربي، ورغم تعدد المصادر ومواكبة الصحف والمجلات لتلك الرحلات الفنية التي بدأتها أم كلثوم عقب عدوان 5 يونيو 1967، ورغم حجم تلك الزيارة وأهميتها في نطاق التعاون المصري – السوفيتي الذي بلغ مداه طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فإن هذه الزيارة لم تلق هذا التوثيق والمتابعة المتوقعة لها؛ بسبب ظروفها العاثرة التي انتهت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر في مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وفقًا لكتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” لكريم جمال.
– الانتصار بسلاح السوفييت والغناء في شوارع موسكو
وبالبحث عن جذور تلك الزيارة، نجد أنه في نهايات عام 1969، وعبر واسطة الكاتب سعدالدين وهبة أجرت صحيفة «البرافدا» الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفيتي، حوارًا مطولاً مع السيدة أم كلثوم، إذ يروى سعد الدين وهبة تفاصيله، قائلا: “ذات يوم اتصل بي مندوب صحيفة البرافدا السوفيتية في القاهرة”.
وتابع: “قال المندوب إنه يريد أن يجري حديثًا صحفيًا مع أم كلثوم، وأن البعض دله عليّ لأكون وسيطا في هذا الطلب؛ لأنه عرف أني أقابلها كثيرًا، وأكتب قصة حياتها، وقابلتها في نفس اليوم وأبلغتها برغبة مراسل البرافدا، وسألتني عن أهمية البرافدا فشرحت لها قيمة الصحيفة في الاتحاد السوفيتي، وسألتني هل أجرت هذه الصحيفة أحاديث مع أحد في مصر؟، وأجبتها أعتقد أنها أجرت حديثًا واحدًا فقط مع الرئيس عبدالناصر، ووافقت أم كلثوم وطلبت مني أن أحضر مع المراسل يوم الثلاثاء القادم، وأبلغت الشاب الذي فرح فرحا شديدًا، وطلبت منه أن يمر على بيتي لنذهب معا إلى بيتها”.
وبدأ اللقاء، وقبل الانتهاء من الحوار وجه المراسل إلى أم كلثوم سؤالًا: “ماذا تفعلين إذا حققتم الانتصار على إسرائيل بالسلاح السوفيتي؟”. فأجابت بتلقائية غريبة، قائلة: “أغني للشعب السوفيتي في شوارع موسكو”.
ويبدو أن نشر هذا الحديث بهذه الصورة جعل القيادة السوفيتية تلتفت إلى أهمية السيدة أم كلثوم ومشروعها في دعم المجهود الحربي.
وبالفعل دار الحوار بين الطرفين بعدما حضر السفير السوفيتي بالقاهرة وزوجته حفل 4 ديسمبر 1969، الذي أقيم في دار سينما قصر النيل بداية للموسم الغنائي لعام 1970 ، فوجهت القيادة السوفيتية الدعوة إلى أم كلثوم؛ لكي تغني في أكبر مسارح موسكو وليس في شوارعها كما تمنت أم كلثوم في لقائها الصحفي.
ووجهت السفارة السوفيتية بمصر، دعوة للسيدة أم كلثوم بزيارة موسكو لمدة أسبوعين.
وتمهيدا للزيارة، أعد قسم الإعلام الخارجي في وزارة الثقافة بالجمهورية العربية المتحدة، كتيبا صغيرًا يقدم فيه السيدة أم كلثوم إلى الجمهور السوفيتي، واكتسى الكتيب بالروح السوفيتية في تصميمه خصوصا لونه الأحمر؛ تعبيرًا عن روسيا الحمراء والشيوعية السوفيتية، وهو ما جعل ذلك الكتيب شبيها بالمطبوعات التي كانت تصدرها دور نشر مهمة مثل «التقدم» و«رادوجا» اللتان كانتا تصدران طبعات لمؤلفات روسية باللغة العربية في ذلك الوقت، تصدرت صورة أم كلثوم الكتيب، وتحديدًا صورتها بفستانها الأسود الجميل ومنديلها الأبيض، وهي صورة التقطت لها في العام السابق وتحديدًا في ليلة إطلاق رائعتها «ألف ليلة وليلة» في 6 فبراير 1969، وبجوار الصورة حاولت وزارة الثقافة اختزال الحدث في كلمات قليلة بليغة تكشف حجم الحدث وضخامته فعنونت الكتيب بجملة قصيرة “أم كلثوم في الاتحاد السوفيتي”، وبجوارها الترجمة الروسية للجملة السابقة، وفي الصفحة التالية لهذا الإصدار كتبت وزارة الثقافة “يسر الإعلام الخارجي لوزارة الثقافة في الجمهورية العربية المتحدة أن يصدر هذا الكتيب بمناسبة زيارة السيدة أم كلثوم للاتحاد السوفيتي في سبتمبر أكتوبر 1970″، وفقًا لبرنامج نظمته الثقافة في الاتحاد السوفيتي وزارتا والجمهورية العربية المتحدة.
– استقبال تاريخي
وفي تحقيق صحفي نشرته مجلة «الموعد» اللبنانية خلال شهر أكتوبر 1970، يصف الصحفي عماد فتوح محرر المجلة تفاصيل استقبال أم كلثوم، التي انتظرها عشرات المصورين الصحفيين ومئات من الطلبة العرب الذين يدرسون في العاصمة الحمراء، ووقتما أطلت “كوكب الشرق” من باب الطائرة الضخمة التي أقلتها من القاهرة إلى موسكو، حتى دوى التصفيق في ساحة المطار والشرفات، وفي كل مكان فيه متسع لإنسان، فقد كان المطار الكبير مكتظًا بالطلبة العرب الذين جاؤوا من موسكو التي تبعد 50 كيلومترا عن المطار؛ لاستقبال سيدة الغناء العربي.
وما إن رأى الصحفيون السيدة أم كلثوم حتى انهالوا عليها بأسئلتهم: “ماذا وراء زيارتك إلى موسكو؟ وهل جئت من أجل الاستجمام فقط أم من أجل أن تغني للطلبة العرب الذين يدرسون في الاتحاد السوفيتي؟”.
وهنا تدخل المهندس محمد الدسوقي ابن شقيقة السيدة أم كلثوم ومدير مؤسسة الاستديوهات السينمائية المصرية، يترجم لها أسئلة الصحفيين السوفيت، وكعادتها دائما انتظرت أم كلثوم حتى ينتهي الصحفيون من أسئلتهم، ثم أجابت باللغة العربية: “جئت إلى موسكو لسببين أولهما من أجل أحياء حفلتين غنائيتين في تياترو البولوشوي بموسكو؛ إكراما للطلبة العرب الذين يدرسون في هذه البلاد، وثانيهما من أجل الاستجمام قليلا والترويح عن النفس قبل الموسم الغنائي القادم”.
– جولة سياحية في تاريخ بلاد السوفييت
حاولت السفارة المصرية في موسكو – أهم السفارات المصرية في العالم آنذالك- أن تواكب ذلك الحدث وأن تكون على قدر المسئولية، وأن تعمل على تدعيم التعاون بين السلطات السوفيتية وبين السفارة من أجل نجاح الزيارة، وتحقيق الهدف المرجو منها، كما امتد الاهتمام السوفيتي والتعاون بينها وبين السفارة إلى تفاصيل أخرى بعيدا عن الجانب الفني للزيارة، حيث نوع الأطعمة والمشروبات المفترض تقديمها لأم كلثوم ومرافقيها والأماكن المقرر زيارتها.
وحددت السلطات السوفيتية، أماكن بعينها يجب أن يتضمنها برنامج الزيارة مثل مترو الأنفاق والمكتبة الوطنية في موسكو، والمتحف التاريخي وغيرها.
ونظمت وزارة الثقافة السوفيتية، حفل استقبال رسمي للسيدة أم كلثوم، وأقامت السفارة المصرية حفلًا آخرًا حضره السفراء العرب ونجوم الفن والفكر والأدب من السوفيت.
وفي اليوم التالي لوصولها، بدأت أم كلثوم برنامجها الفعلي في العاصمة السوفيتية بزيارة متحف «تريتيا كوف» الواقع بشارع «لافروشينسكي» في وسط العاصمة موسكو، وفي المساء، دعيت والوفد المرافق لها إلى سهرة موسيقية كبرى في مسرح البولوشوي، حيث استقلت أم كلثوم مترو روسيا الشهير وهي في طريقها إلى المسرح، وأوفدت وزيرة الثقافة الروسية نائبها فلاديمير بوبوف؛ لكي يرافق أم كلثوم ووفدها في تلك السهرة.
ولم تكن أم كلثوم سائحة عادية يمكن لها أن تزور تلك الأماكن بمنتهى الهدوء، دون أن يشعر بها أي إنسان، ففي كل مكان كانت تذهب إليه كان ينتظرها عشرات الصحفيين والمصورين ومئات الطلبة العرب، وما إن تقترب منهم حتى تجمعون حولها، ويبدأون بالأسئلة: “إزي الصحة يا ست؟ إن شاء الله كويسة؟ أخبار مصر إيه؟ وإزي الحالة عندكم؟ عندك أغنيات جديدة علشان الموسم اللي جاي؟”.
وكعادتها، تنتظر حتى تهدأ العاصفة، ثم تجيب بهدوء شديد الحمد لله الصحة كويسة ومصر بخير طالما الريس بخير، والحالة في الأردن هدأت والحمد لله، وعندي عدة أغاني جديدة لموسم الشتاء القادم.
وعندما عاد الطلاب العرب إلى طرح الأسئلة من جديد، أجابت أم كلثوم بدبلوماسية وبسمة على الشفاه: “تسمحوا تعفوني بقى من السين والجيم علشان عاوزه أشوف اللوحات الحلوة اللي في المتحف، ولا أنتم عاوزيني أجي موسكو وما أشوفش حاجة فيها!”.
فضحك الطلاب، ومعهم الصحفيون وفتحتوا لسيدة الغناء العربي الطريق، وتأبطت السيدة أم كلثوم ذراع المهندس محمد الدسوقي ابن شقيقتها، وبدأت جولتها في متحف الفن الكلاسيكي الذي يضم أهم أعمال الرسامين الروس.