تكشف قواعد تصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي الأمريكية التي أصدرتها إدارة الرئيس جو بايدن يوم الاثنين، عن الرغبة الأمريكية في استخدام صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي التي تنتجها الشركات في الولايات المتحدة إلى أداة دبلوماسية تستطيع من خلالها الحصول على تنازلات تكنولوجية وجيوسياسية من الدول الأخرى الراغبة في الحصول عليها.
وفي تحليل نشره موقع مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي الأمريكية قال سام وينتر ليفي زميل برنامج التكنولوجيا والشؤون الدولية في مؤسسة كارنيجي إن القواعد التي أصدرتها إدارة بايدن تحت عنوان “إطار عمل نشر الذكاء الاصطناعي”تعكس رغبة الإدارة الأمريكية التي لم يتبق لها في السلطة سوى أقل من أسبوع في إعادة تشكيل المشهد الدولي للذكاء الاصطناعي ووضع شروط أمنية وتصديرية لسوق الذكاء الاصطناعي الذي سيؤدي إلى تطوير أقوى الأنظمة التكنولوجية خلال السنوات المقبلة.
في الوقت نفسه فإن تأثير هذه القواعد التي أصدرتها الإدارة المنتهية ولايتها يظل غير واضح. فالمؤكد أن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب ستدرس كيفية أو إمكانية تنظيم صادرات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة الأمريكية. لكن أثناء قيامها بدراسة الأمر سيتعين عليها أيضا أن تأخذ في الاعتبار ضغوط الأمن القومي الأساسية والحوافز الاقتصادية التي دفعت إدارة بايدن إلى تطوير هذه السياسة.
وتستهدف القاعدة الأمريكية الجديدة إقامة نظام ترخيص عالمي لصادرات رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة ومعايير تقييم الذكاء الأساسي لأي نظام ذكاء اصطناعي المعروف باسم أوزان نماذجه. كما تستهدف تشجيع تطوير الذكاء الاصطناعي في الدول الصديقة وتحفيز الشركات في العالم على تبني المعايير الأمريكية. ولتحقيق ذلك فإنها قسمت دول العالم إلى ثلاث فئات وفقا لقدرات الرقائق وأوزان نماذج الذكاء الاصطناعي التي بمكن أن تحصل عليها، بهدف التحكم في بيع رقائق الذكاء الاصطناعي التي تستخدم في مراكز البيانات.
تضم الفئة الأولى مجموعة صغيرة من 18 دولة حليفة تستطيع الحصول على الرقائق الأمريكية دون قيود وهي دول الشراكة الاستخباراتية “العيون الخمس” التي تضم أستراليا وكندا ونيوزيلندا وبريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة، ثم الشركاء الرئيسيين الذين يلعبون دورا حيويا في سلاسل إمداد صناعة الرقائق الإلكترونية مثل اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان، وأخيرا الحلفاء الأساسيين في حلف شمال الأطلسي (ناتو). أما الفئة الثانية فتضم أغلب دول العالم وستواجه قيودا على قوة أجهزة الكمبيوتر التي تستطيع استيرادها من الولايات المتحدة إلا إذا قدمت ما يفيد بأنه سيتم استخدام هذه الأجهزة في بيئة آمنة وموثوقة. وأخيرا الفئة الثالثة التي تضم الدول المناوئة للولايات المتحدة وستظل خاضعة للقيود الصارمة على تصدير التكنولوجيا الأمريكية المتطورة إليها.
ويقول سام وينتر إن القاعدة الجديدة هي محاولة من جانب إدارة بايدن للإجابة على السؤال الذي سيصبح قريبا جدا محوريا في السياسة الخارجية والاستراتيجية الاقتصادية للولايات المتحدة والمتعلق بالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة في تشارك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأمريكية مع الدول الأخرى، ومحاولة للتوفيق بين اعتبارين متعارضين.
الاعتبار الأول يتمثل في أن النمو السريع للطلب العالمي على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأمريكية، يمكن أن يحقق إيرادات ضخمة للشركات الأمريكية ويساعد في إعادة الدول التي تتقارب حاليا مع النظام الاقتصادي الصيني إلى مجلس التأثير التكنولوجي الأمريكي. وهذا الاعتبار يخلق حوافز ضخمة للشركات الأمريكية لتصدير المنتجات والمعايير الحاكمة للتكنولوجيا إلى الخارج بأسرع ما يمكن.
أما الاعتبار الثاني، فيتمثل في قلق صناع السياسة الأمريكيين من انتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن يكون لها تداعيات حرجة بالنسبة للأمن القومي. فإذا أصبح الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا مركزية استراتيجية يمكن أن تؤدي إلى اختراقات كبرى اقتصادية وعسكرية في السنوات المقبلة، فإن المسؤولين الأميريكيين يرغبون في ضمان احتفاظ الولايات المتحدة وحلفاؤها بالسيطرة الفعلية على القدرة على تطوير واستخدام الأنظمة الأقوى. هذه الضرورة تفرض العمل على منع حصول أي جهة لا تعتبرها الولايات المتحدة حليفا أو شريكا موثوقا فيه على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتحاول القاعدة الأمريكية الجديدة إيجاد حل وسط يوفق بين هذين الاعتبارين. ويعود أصل هذه القاعدة إلى ضوابط التصدير التي قدمتها إدارة بايدن في 2023 والتي وسعت القيود المفروضة على بيع رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة لدول أخرى إلى جانب الصين. وشملت القائمة بعض الدول في الشرق الأوسط، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، التي تتوق إلى الوصول إلى قوة الحوسبة الأمريكية لتغذية طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي ولكن لديها أيضًا علاقات وثيقة مع الصين وغيرها من الدول المنافسة للولايات المتحدة. ويشعر المسؤولون الأمريكيون بالقلق من احتمال حصول المؤسسات الصينية على رقائق الذكاء الاصطناعي الأمريكية المتطورة والالتفاف على القيود الأمريكية من خلال استخدام خدمات الحوسبة السحابية في الخارج أو بناء مراكز بيانات باسم شركات وهمية في دول ما يزال مسموح لها باستيراد الرقائق. للتخفيف من هذه المخاطر، طلبت واشنطن من دول مثل الإمارات العربية المتحدة الحصول على ترخيص قبل أن تتمكن من شراء الرقائق. وفي النهاية منحت بعض هذه التراخيص، ولكن فقط بعد أشهر من المفاوضات التي بلغت ذروتها بتخلي شركة جي 42 الإماراتية للتكنولوجيا عن علاقاتها مع الشركات الصينية، والتوقف عن استخدام أجهزة هواوي الصينية والتعاون مع مايكروسوفت مقابل الوصول إلى رقائق شركة نيفيديا الأمريكية.
ومن وجهة نظر مايكروسوفت وإدارة بايدن، فإن الاتفاق مع جي 42 يمثل إنجازا مهما. فقد استقطب هذا الاتفاق دولة مهمة إقليميا نحو الولايات المتحدة وأبعدها عن شركات التكنولوجيا الصينية، وشجع الإمارات العربية المتحدة على تبني مجموعة بروتوكولات الأمن والأساليب اللازمة للتطوير المسؤول للذكاء الاصطناعي تحت إشراف شركة تكنولوجيا أمريكية عملاقة. لكن الوصول إلى هذا الاتفاق احتاج إلى شهور من المفاوضات وهو ما يمكن أن يصيب الكثير من الشركاء المحتملين بالإحباط.
وبمجرد نشر القاعدة الأمريكية أمس الاثنين ، شكلت تدخلا معقدا في سوق عالمية، وستتوالى ردود الأفعال عليها بعد أن يطلع الخبراء والمحامون والشركات على التفاصيل. لكن بعض ردود الأفعال ظهرت بالفعل.
فمن البداية واجهت هذه القاعدة انتقادات حادة من بعض الشركات الأمريكية التي حذرت من عواقبها غير المقصودة. وقد ضغطت شركتا نفيديا وأوراكل بشكل خاص ضد هذه القاعدة. ووصفت أوراكل إحدى أكبر شركات التكنولوجيا والحوسبة السحابية الأمريكية القاعدة بأنها “الأشد تدميرا لصناعة التكنولوجيا الأمريكية على الإطلاق” وبأنها “أسوأ فكرة حكومية في مجال التكنولوجيا في التاريخ”.
وتنطلق بعض هذه الانتقادات من المصالح الخاصة بالشركات التي ترى أن القاعدة الجديدة تقلص قدرتها على بيع منتجاتها وتفرض عليها اشتراطات جديدة، وتجبرها على إعادة التفكير في بعض أماكن توسعها في مجال مراكز البيانات في العالم. لكن البعض الآخر يأتي من منظور استراتيجي أوسع. ويقول هؤلاء إن هذه القيود سوف تضع سوق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي العالمية في يد الشركات الصينية المنافسة مثل علي بابا هولدنجز وهواوي وتينسنت. فمع فرض قيود وعقبات إجرائية على تصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على دول الفئة الثانية التي تضم أغلب دول العالم، فإن هذه الدول ستتوجه نحو الصين للحصول على احتياجاتها.
ولعبت المخاوف من احتمال قيام الصين بملء الفراغ الناجم عن القيود الأمريكية في سوق رقائق الذكاء الاصطناعي والتدخل كمورد بديل للولايات المتحدة لتوفير احتياجات دول الفئة الثانية، دورًا بارزًا في مداولات الإدارة الأمريكية على مدار العام الماضي. وترى الإدارة، أنه على الرغم من التقدم المذهل الذي أحرزته الشركات الصينية في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، لا يوجد دليل على أن لديها القدرة على تصدير أعداد كبيرة من رقائق الذكاء الاصطناعي الآن ولا في المستقبل القريب، حيث لا تستطيع الصين حتى الآن تلبية احتياجاتها المحلية من هذه الرقائق. ويزعم المسؤولون الأمريكيون أنه طالما لم يتم تلبية الاحتياجات المحلية ، فلن تصدر الصين كميات من رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة – مما يمنح الولايات المتحدة فرصة كبيرة لفرض المعايير الأمريكية وضمانات الأمن في مقابل الوصول إلى قوة الحوسبة الأمريكية. ولكن ربما يتآكل هذا النفوذ مع تنامي القدرات التصنيعية للصين في مجال الرقائق المتقدمة بمرور الوقت.
لذلك يتعين على الولايات المتحدة مراقبة رد الفعل الدولي على القواعد الجديدة باهتمام بالغ. فقد وجدت حوالي 20 دولة من دول حلف الناتو نفسها ضمن الفئة الثانية التي لا تستطيع الحصول على التكنولوجيا الأمريكية دون قيود. كما أن الهند وهي شريك آسيوي رئيسي ولديها طموحات تكنولوجيا كبيرة تقع ضمن هذه الفئة. لذلك فإن ما قد يراه صناع السياسة الأمريكية جهودا مسؤولة لضمان التطوير والاستخدام الآمن لأنظمة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي القوية، يمكن أن تراها دول أخرى محاولة لفرض القيم الأمريكية قسرا. لذلك فهذه القواعد يمكن أن تعزز الرواية القائلة بأن الولايات المتحدة عازمة على ترسيخ هيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية في حين تدوس بقسوة على استقلالية جزء كبير من العالم.
معنى ذلك أن محاولات الولايات المتحدة للتحكم في انتشار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة تحتاج إلى التحلي بأكبر قدر من الحكمة لآنها تعتبر سلاحا ذا حدين. فهي وإن كان يمكن أن تحول دون وصول هذه التقنيات المتقدمة إلى دول أو جهات مناوئة للولايات المتحدة ويمكنها استخدامها للإضرار بها وبحلفائها، فإنها يمكن أن تفتح الباب أمام تنامي النفوذ الصيني في هذا المجال الحيوي ويدفع بالمزيد من دول العالم إلى التقارب مع الصين واستخدام تقنياتها والابتعاد عن واشنطن.