لا أدرى عما إذا كان موعد وفاة د. نوال السعداوى كان محض مصادفة لحدوثه أثناء مناقشة مجلس الشيوخ «لمشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات (ختان الإناث)؛ أم أن الموعد جاء لتذكيرنا بقضية بالغة الأهمية لا تزال تحتاج الكثير من المناقشات رغم مرور خمسين عامًا على كتاب الراحلة «المرأة والجنس»، وأكثر من نصف القرن من الكفاح من أجل حقوق المرأة. ما حدث فى مجلس الشيوخ جدير بالعرض، وهو ما سوف يأتى فى مقالى الأسبوعى يوم الثلاثاء، ولكن هذا العمود هو حديث عن سيدة عظيمة. وخلال الأيام القليلة الماضية ربما لم تلْقَ شخصية مصرية عند الوفاة ما لقيته أستاذتنا من الصحافة والإعلام الدولى فى قارات العالم؛ ولم يكن ذلك مفاجئًا لى، فقد كانت شخصية عالمية بحق، واكتشفت هذه الحقيقة قبل عقود عندما كانت مطارات العالم تزخر بالمكتبات التى كنت أجول بها فى ساعات الانتظار الطويلة لكى أجد أنه بين أرفف الكتب لا يوجد إلا اسمان مصريان: نوال السعداوى وحسن فتحى. الأولى أوصافها كثيرة ككاتبة رائعة بأفكار عظيمة، ومناضلة من أجل حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، والعدالة بشكل عام. عدد من الكتاب وصفها بالشعلة التى تنير الطريق أو Trailblazing، وآخرون وصفوها بأنها Firebrand. هى طبيبة ومعالجة نفسية وباحثة فى الشأن الأنثوى، وداعية، وكاتبة كلماتها حادة، وحروفها ساخنة، وكما كانت قوتها فى تمسكها الشديد فى كل ما تعتقد، فإن ذلك كان مصدر ضعفها بين بنى وطنها، الذين كانوا دائمًا فى أشد الحاجة إلى أفكارها، حيث بعد قرابة تسعين عامًا من حياتها لا يزالون فى حاجة إلى قوانين جديدة، لا نعلم ما إذا كنا سوف نعود إلى مراجعتها مرة أخرى.
ربما الأهم من ذلك أنها كانت معلمة جيل بأكمله، جيلنا الذى كان يعلم الكثير عن الماركسية والليبرالية والاشتراكية والإسلامية والإسلاموية، وما بين هذه الأفكار العظمى من ظلال ودرجات. ولكن داخل كل هذه الأفكار كانت علاقة الرجل بالمرأة تتخشب فى عمومها عند قضايا المساواة والميراث، ولكن الجنس، رغم نفى الحياء فى العلم، ظل دائمًا مساحة مظلمة، غير معروفة، وعصِيّة على العرض والنقاش العام. جاء كتاب د. نوال السعداوى «المرأة والجنس» لكى يفض بكارة الموضوع السرى وما عليه من غطاء، ويفتح الأبواب إلى عوالم من التفكير والمعرفة والفهم على طريق «السعادة» و«النشوة» والعلاقات الزوجية التى استقر المجتمع على البُعد عنها والهروب من أسئلتها. والحقيقة أن صدور الكتاب كان من ناحية لحاقًا مصريًا وعربيًا بعصر تفتحت فيه الرؤى والأبحاث العلمية قبل عقدين تقريبًا خلال الخمسينيات والستينيات فى الدول الغربية حول حقائق الحياة الإنسانية بين الرجل والمرأة، ولكنه كان من ناحية أخرى فتحًا كبيرًا للمعرفة فى بيئة مستعصية ليس فقط على التقدم بشكل عام، وإنما معادية لمواجهة هذه الزوايا، التى باتت «حسّاسة» و«حرجة» بشكل خاص.
لا أدّعِى أننى قرأت 55 كتابًا أصدرتها، ولكن ما قرأته لها من مقالات ودراسات كان فيها من الأصالة الفكرية والإبداع النظرى ما يثير العقل والوجدان. بالطبع كانت العالِمة والمُبشِّرة الكبيرة بعيدة منى إلى اليسار، الذى اجتمعت فيه نظريات للعدالة والمساواة ومقاومة الاستعمار والرأسمالية، ومن الموقف الذى أصبحت فيه فكريًا منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى، ولكن موقفها من المرأة وحريتها ومكانتها ظل دائمًا مصدر تقدير كبير ليس فقط من الزوايا الفكرية والنظرية، وإنما من زاوية «التقدم» الإنسانى بصفة عامة، وفى مصر بصفة خاصة. لا شك أن المرأة المصرية تقدمت خلال العقود الماضية، دخلت أكثر من عصور مضت إلى التعليم وسوق العمل، ومنذ الستينيات دخلت إلى مناصب الدولة والبيروقراطية بشكل عام، ومؤخرًا احتلت مواقع متقدمة فى الوزارة والبرلمان وسوق الأعمال والمشروعات، ولكن رغم ذلك كله فإنها لا تزال تشكل جزءًا كبيرًا من سر أسرار الأمة التى نكرر كونها الأم والأخت والزوجة، ولكنها ليست بالضرورة المرأة والحبيبة والأنثى والعالِمة والمعلمة والمبتكرة والمبدعة. بشكل ما فإن القضايا التى أثارتها نوال السعداوى قبل نصف القرن لا تزال تستثير كثيرًا من اللغط والسخط، وتستدعى مؤسسات دينية ومدنية لكى تشمر عن سواعدها لكى تدافع عن بقاء أوضاع قديمة تحت ستار العرف والتقاليد والدين والتراث والحياء. هى حالة تستحق الدراسة والتفكير والبحث، فلعله، وفى يوم ما سوف يكون التقدم فى البلاد كافيًا لكى يغطى قضايا المرأة كلها فى وضوح وصراحة وشجاعة. رحم الله نوال السعداوى وأسكنها فسيح جناته، التى تستحقها تمامًا جزاء ما كتبت وما دافعت.