نعم هى إسرائيل ذلك الكيان العجيب الذى ظهر فى القرن العشرين ليطرح على البشرية سؤالاً مهمًا عن طبيعة التعايش المشترك بين الأمم والشعوب، فلم يعرف المجتمع الدولى ذلك الذى فعلته إسرائيل فى العقود الأخيرة ضد السكان الأصليين أصحاب الحق والأرض فى فلسطين إلا ما فعله المستعمر الأمريكى أو الرجل الأبيض عمومًا فى حرب الإبادة على الهنود الحمر، لقد مارست إسرائيل كل أنواع البطش والعدوان والتحفت بكل أشكال العنصرية وتعاملت مع العرب على نحو غير مشروع لا نكاد نعرف له تسمية بديلة لكلمة إبادة الجنس البشرى، وهى فى ذلك تستخدم كل الأساليب والوسائل لتنشر الرعب حولها وتتخذ من الإرهاب بمعناه الواسع أسلوبًا للقمع والتنكيل والتخويف، وتمارس كل أنواع العدوان برًا وجوًا ولا تتورع عن قتل الأطفال والنساء والقيام بعمليات الاغتيال بدمٍ بارد، فضلاً عن محاولتها تحقير الشرعية الدولية والاستخفاف بالأعراف والقواعد المعمول بها فى العالم المعاصر، ولا تتورع كذلك عن إهانة أكبر موظف دولى وهو الأمين العام للأمم المتحدة لأنه أراد أن يلتزم بما شرعه المجتمع الدولى لضبط العلاقات بين الدول والشعوب، فهى تمارس بحق حربًا بلا سقف وتمضى على طريق لا نظير له سفكًا للدماء وتمثيلاً بالجثث والعدوان على النساء والأطفال وكبار السن لا يردعها رادع ولا تقلقها قوة لأنها مدعومة من أقوى قوة فى عصرنا وأعنى بها الولايات المتحدة الأمريكية التى ترى أن إسرائيل جزء لا يتجزأ منها وكيان محسوب عليها وابن مدلل له الحق فى أن يفعل ما يشاء ويفلت من العقاب لأن أمه تغطيه بما نطلق عليه الفيتو الأمريكى فى مجلس الأمن، وها هى إسرائيل تتجاوز الأعراف وتأتى بمواقف جديدة لم تكن معهودة فى الحروب أو النزاعات المسلحة ولكنها ترى أن استخدامها أمر مبرر، فالمثل الشعبى فى مصر ــ وأظنه متداول فى بنفس المعنى عربيًا ــ يقول (إن الغجرية سيدة جيرانها) وينطبق هذا القول تمامًا على إسرائيل بجرائمها البشعة وتصرفاتها غير المتوقعة وشهوة الانتقام الكامنة فى أعماق من يقودونها إلى جانب تعطش ملحوظ للدماء ورغبة واضحة فى تصفية البشر والتمثيل بالجثث وتحويل المدن إلى أنقاض والمنازل والبيوت والمدارس والمستشفيات إلى ركام، وغرس أشجار الكراهية فى البيئة الفلسطينية، حتى يتساءل المرء كيف يكون هناك عيش مشترك فى المستقبل بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية التى يشهدها عصرنا الحالى؟! ويهمنى هنا أن أطرح بحياد تام وموضوعية كاملة بعض الملاحظات المرتبطة بما جرى وما يجرى فى الشرق الأوسط:
أولاً: لم أدهش كثيرًا عندما رأيت نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل يطرح خريطة جديدة للشرق الأوسط فى خطابه أمام الأمم المتحدة، وكأنه مهندس الكون الأعظم ينظم الشرق الأوسط من جديد ويرتب أوضاعه وفقًا لأجندة إسرائيلية لم تختف أبدًا، فهى التى رفعت شعارها الكاذب (دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل) لذلك فهو يخرج من جرائمه ضد الشعب الفلسطينى متجهًا نحو دول الجوار بدءًا بلبنان المفترى عليه والذى تنهش أطرافه الطائرات العسكرية والمقاتلات الجوية والمدرعات الأرضية فى ظل شهوة التوسع والرغبة المجنونة فى تدمير كل شىء البشر والحجر بما فى ذلك الكنائس والمساجد، لأن لإسرائيل ابن شارد يقود التطرف ويحرك ما يسمى بجيش الدفاع نحو الهجوم الغادر والقتل المتواصل وقديمًا قالوا فى بلادنا (اصبر على جار السوء فقد تأتيك أخبار نهايته) ولكن جرائم إسرائيل قد امتدت كثيرًا ولم تتوقف أبدًا بل وصلت فى عدوانها إلى قوات حفظ السلام الأممية فأطلقت عليها زخات الموت فى إهانة واضحة للمجتمع الدولى والأمم المتحدة التى تمثله، وأستطيع أن أزعم هنا أن لإسرائيل أطماعا أرضية لا فى فلسطين وحدها أو لبنان معها بل إن أحلامها تمتد فعلاً إلى الأردن وسوريا والعراق فى محاولة لتثبيت أركان دولة العدوان وكيان الطغيان بعد أن كان العرب قاب قوسين أو أدنى من القبول بدولة إسرائيل شريطة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة وقيام دولتهم المستقلة على ترابها الوطنى، ولكن إسرائيل لا تريد ذلك إطلاقًا بل تراوغ لكسب الوقت وتثبيت الأوضاع على الأرض لخدمة خريطتها المزعومة. لذلك فإنها تنتهز كل الفرص وتختلق الأسباب لكى تقول أن لديها يدا طولى قادرة على الوصول لأى مكان فى الشرق الأوسط على حد تعبير وزير دفاعها فى تصريحات علنية يكررها للتخويف والإرهاب وترويع الشعوب وتطويع المجتمعات.
ثانيًا: إن إيران الدولة والثورة تحتاج هى الأخرى إلى مراجعة دورها فى المنطقة، فإذا أرادت أن تدعم القضية الفلسطينية بصدق فإن ذلك لا يتم إلا بالدعم السياسى المفتوح وتوظيف دورها مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وأعوانها بما يخدم المصالح الفلسطينية، ذلك أن فتح ساحات جديدة للمواجهة قد أدى إلى توسيع نطاق هذه الحرب الإقليمية ومحاولة طمس الهوية الفلسطينية فى إطارها العربى، كما أن ذلك يستدعى بالضرورة إثارة النعرات الطائفية وإحداث فرقة على المستويين العربى والإسلامى ويفتح أيضًا بابًا لصراعات فرعية على الساحة الفلسطينية، وإذا تأملنا حجم الدمار والخراب الذى حل بإقليم غزة ونطاق الضاحية الجنوبية فى بيروت وغيرها من المناطق اللبنانية والفلسطينية لأدركنا على الفور أن إسرائيل لا تسعى إلى السلام أبدًا ولا تقبل التعايش المشترك ولكنها تريد البقاء فى المنطقة بالقهر والتدمير والعدوان، وفى المقابل فإننا نرى أن إيران لديها مشروعها الخاص الذى يستفيد أيضًا من القضية الفلسطينية بتكريس وجود الدولة الفارسية على الحدود الشرقية للوطن العربى، وأحسب أن الدبلوماسية الإيرانية تسعى لأن تكون الشرطى الوحيد فى المنطقة فى منافسة مكشوفة مع الدولة العبرية، والعرب بين الفرس واليهود يصبحون بحق كالأيتام على مائدة اللئام! وأنا لا أزعم أن الخطر الإيرانى يتساوى مع الخطر الصهيونى على شعوب المنطقة العربية، ولكننى أدعى أن لكل منهما أجندة مختلفة ولكنها تلتقى فى الهدف وتمضى على نفس الطريق وهو احتواء شعوب المنطقة وقيادتها نحو غايات تتفق مع أهداف أى من إسرائيل أو إيران، ولقد شهدت مؤخرًا مقابلة تلفزيونية مع شاه إيران الأخير قبل رحيله بفترة وجيزة وهو يتحدث عن مستقبل المنطقة والدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل وذلك لتأكيد أهمية إيران الدولة قبل سطوة إيران الثورة.
ثالثًا: إن الأوضاع الدولية الراهنة وتشابك الملفات المحلية والإقليمية يجعل من الصعب الخلاص مما نحن فيه ويلقى على عاتق أجيالنا القادمة احتمالات استمرار المواجهة مع الاستعمار السرطانى الذى يجثم على صدر الشعب الفلسطينى ومعه شعوب الجوار، لقد آن الأوان لكى تتفرغ شعوب المنطقة للبناء والتنمية بعد أن استهلكتها الحروب والصراعات العسكرية ولا يحدث ذلك إلا بإرادة عربية قوية ورغبة قومية تدرك أن المخاطر تحيط بالجميع وأن مسلسل نزيف الدم فى المشرق العربى لن يتوقف إلا بتغيير جذرى فى التفكير الإسرائيلى مع اعتدال مطلوب فى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بحيث تدرك أن انحيازها المطلق لإسرائيل هو جريمة كبرى فى حق شعوب هذه المنطقة لأن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين قد أصبحت مكشوفة أمام الجميع حتى الشعوب الغربية ذاتها والتى رأيت مظاهراتها فى شوارع لندن فى أثناء زيارتى الأخيرة وهم يخرجون بعشرات الآلاف لنصرة الشعوب العربية التى تمضى أجيالها تحت ضغوط هائلة للاستعمار والعنصرية ومحاولات سرقة الشعوب واحتلال الأوطان.
هذه قراءة لملف غريب وعجيب لا يضع سقفًا للحرب ولا حدًا للعدوان وفوق ذلك كله فإنه يخفى أطماعه التوسعية بخريطة كاذبة ومعلوماتٍ مغلوطة وحروب لا تتوقف.