ما أن نطق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بما قال إنه رواية “قد تكون مخطئة” حول أصول يهودية لهتلر، الأحد الماضي، 1 مايو، لقناة إيطالية، حتى قامت الدنيا ولم تقعد.
أثارت تلك الكلمات هستيريا إسرائيلية معروفة ومحفوظة عن ظهر قلب، فاعتبرها وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد “أمرا في غاية الخطورة”، ثم استدعى السفير الروسي لدى إسرائيل، للحصول على “توضيحات” بشأن تصريحات وزير خارجيته.
وعلى الرغم من أن ما قاله لافروف هو بالفعل رواية محل بحث وجدل، بين مؤيد ومعارض، وبين ابتزاز سياسي لهتلر في عشرينيات القرن الماضي، أشعله خصومه السياسيون، ثم تعززت الرواية بوصوله إلى السلطة في عام 1933، وبين مذكرات هانز فرانك، الذي كان برتبة حاكم في الحزب النازي ولقب بـ “جلاد بولندا”، وحملت المذكرات عنوان “مواجهة المشنقة”، ونشرت عام 1953، بعد سنوات على إعدامه، والتي قال فيها فرانك إنه حقق في أصول هتلر بناء على طلب الزعيم النازي نفسه، لوقوعه “ضحية ابتزاز بغيض” بحسب المذكرات، التي نشرتها “دير شبيغل” آنذاك، إلا أن إسرائيل اعتبرت تلك “أكاذيب، تهدف إلى إلقاء اللوم على اليهود أنفسهم واتهامهم بأروع الجرائم التي اقترفت بحقهم على مدار التاريخ، وبالتالي إعفاء أعداء الشعب اليهودي من مسؤوليتهم عنها”.
لكن البعض يرى أن “أصول هتلر اليهودية” كانت ربما “محاولة من جانب النازيين أنفسهم لتقديم تفسير لهزيمتهم في الحرب”، ويرى البعض الآخر أن اضطهاده لليهود كان نتيجة “للخزي الذي شعر به بسبب أصله اليهودي جزئيا”، إلا أن كثيرا من المؤرخين يجمعون على أنه لا يوجد دليل تاريخي على أي من ذلك. ولم يقل لافروف سوى أنه “ربما يكون مخطئا”، وفي نهاية المطاف، فلم يخطئ الرجل في البخاري، كما نقول نحن العرب.
لكن كرة الثلج تحركت، ودفعت بالأزمة الدبلوماسية إلى مستوى أعلى، فأشارت الخارجية الروسية في مذكرة لها، أصدرتها في 3 مايو، إلى أن ما يدور في أروقة السياسة الإسرائيلية يفسر إلى حد كبير “مسار الحكومة الإسرائيلية في دعم نظام النازيين الجدد في كييف”.
فحجة أن لفلاديمير زيلينسكي أصول يهودية ليست فقط غير مقبولة، بل إنها حجة خبيثة، وسم في العسل، وحق يراد به باطل، فالتاريخ يعرف أمثلة مأساوية لتعاون اليهود مع النازيين في بولندا ودول أخرى بأوروبا الشرقية، وقد قام الألمان بتعيين عدد من كبار الصناعيين اليهود كرؤساء للأحياء والمجالس اليهودية فيما كان يعرف بالـ “يودين رات” Judenrat، بل إن بعضهم يُذكر لأعماله الوحشية للغاية.
ويرى بيان الخارجية الروسية أن الأصل اليهودي للرئيس “ليس ضمانة للحماية من النازية الجديدة في البلاد”، وأوكرانيا ليست الوحيدة في ذلك، فرئيس لاتفيا، آي. ليفيتس، وفقا للبيان، هو الآخر يتمتع بجذور يهودية، لكنه هو الآخر يتستر “بنجاح” على إعادة تأهيل الجناح العسكري للحزب النازي “فافن إس إس” Waffen-SS في بلاده.
ترى هل يعجز رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، عن رؤية الاستخفاف بتاريخ مكافحة النازية، وتدنيس النصب التذكارية لمن دافعوا عن اليهود وأوقفوا الهولوكوست من جنود الجيش الأحمر السوفيتي؟ وهل ينسى بينيت استدعاء الخارجية الإسرائيلية لسفراء بولندا وبلغاريا ودول البلطيق، بل وأوكرانيا نفسها، لتسليمهم احتجاجات حادة بهذا الشأن؟ وهل ينسى رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي كان يشغل منصب وزير علاقات الشتات، التقرير الذي صدر بشأن عدد الحوادث المعادية للسامية، والذي يقر بأن أوكرانيا قد أصبحت رائدة بين جميع دول الاتحاد السوفيتي السابق من حيث عددها، بل وتتفوق عموماً على جميع دول الاتحاد السوفيتي مجتمعة؟
لم تتوقف “الأزمة الدبلوماسية” عند هذا الحد، بل أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، الخميس 5 مايو، عما أسمته وسائل الإعلام “اعتذارا” تقدم به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لرئيس الوزراء الإسرائيلي عن تصريحات وزير خارجيته، سيرغي لافروف!
والحقيقة أنني أعدت قراءة وسائل الإعلام الغربية الواحدة تلو الأخرى، وعدت إلى مصادري الخاصة الواحد تلو الآخر، لما أعرفه عن طبيعة الرئيس الروسي، وطبيعة العلاقات الروسية الإسرائيلية، وما تحتمه طبائع الأشياء ومنطق الجغرافيا والتاريخ في الفارق ما بين حجم ووزن الدولتين في المشهد السياسي الدولي، فلم أجد أي وجاهة أو منطق في إمكانية أن “يعتذر” بوتين لبينيت، وحينما خرج بيان الكرملين، 5 مايو، أخذت أبحث بعدسة مكبرة عما يمكن أن يختفي بين السطور من كلمات تشير من قريب أو من بعيد لأي “اعتذار” فلم أجد حقيقة.
على العكس من ذلك تماما، وجدت تأكيدا من الرئيسين، عشية الاحتفال بعيد النصر في الحرب الوطنية العظمى، “الذي تحتفل به كل من روسيا وإسرائيل في التاسع من مايو”، على “الأهمية الخاصة لهذا التاريخ بالنسبة لشعبي البلدين، اللذان يحافظان على الحقيقة التاريخية حول أحداث تلك السنوات وتكريم ذكرى جميع من سقطوا، بمن فيهم ضحايا الهولوكوست”. كذلك أشار نفتالي بينيت إلى “الدور الحاسم الذي لعبه الجيش الأحمر في النصر على النازية”.
وفي اليوم التالي، الجمعة 6 مايو، وخلال مؤتمر صحفي للمتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، وردا على سؤال بشأن ذلك “الاعتذار”، كان رده بالنص: “كانت المحادثة مهمة للغاية. لكن في الوقت الحالي ليس لدينا ما نضيفه إلى ما ذكرناه في التقرير المنشور حول نتائج المكالمة”. وتابع بيسكوف: “نواصل حوارنا الودي مع الأصدقاء الإسرائيليين، والرئيس على اتصال بالسيد بينيت واتفقا على مواصلة الاتصالات”.
هذا كل ما هنالك.. بالنص وبالحرف، أما ما تنشره وسائل الإعلام “العالمية” نقلا عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، فلربما كان ذلك حفظا لماء الوجه، أو للاستهلاك المحلي، أو لأي أغراض سياسية داخلية أو خارجية أخرى.. الله أعلم.
إن معاداة السامية في حقيقة الأمر أوسع من المفهوم الشائع بكثير، فالسامية مشتقة من أحد أبناء نوح الثلاثة في سفر التكوين، واصطلح المؤرخون على تسمية الشعوب التي تتفاهم بالعبرانية والعربية والسريانية والحبشية، والتي كانت تتفاهم بالفينيقية والآشورية والآرامية بالشعوب “السامية” نسبة إلى سام ابن نوح. بمعنى أننا نحن العرب، ساميون، أيضا.. فما بال أولاد العم يضطهدوننا، ويقمعوننا، ويحتلوننا، ويطردوننا من أراضينا، ثم لا يطيقون أن يطلق المرء كلمة، ولا نقول رصاصة أو طلقة مدفع أو بلدوزر يزيل مبنى متعدد الطوابق من الوجود، بل كلمة واحدة عن “الهولوكوست” أو عن أصول يهودية لهتلر لا سمح الله.
والنازية الحقيقية الأمس واليوم هي واقعيا ما تدعمه الفاشية الصهيونية من النازيين الجدد في أوكرانيا، وما يتم إرساله من متطوعين إسرائيليين في صفوف القوميين الأوكرانيين المتطرفين، والنازية الحقيقة الجديدة والقديمة هي احتلال الأراضي الفلسطينية، بدعوى المظلومية التي وقع اليهود ضحية لها، وكأن “الهولوكوست”، وتعرض اليهود للظلم مبرر شرعي للعدوان على الأراضي واحتلالها والاعتداء على المقدسات وقتل الأبرياء لعقود من الزمن، والنازية الحقيقية هي ما كان يخطط له “البنتاغون” و”الناتو” منذ انقلاب عام 2014 في أوكرانيا لاختطاف الدولة وشيطنة كل ما هو روسي، ومطاردة أوهام الحرب الباردة التي لم يتجاوزها الغرب بعد.
وليس ما يحدث أمام أعيننا الآن سوى امتداد للاستراتيجية العسكرية لحلف “الناتو” ضد روسيا بوصفها وريثة للاتحاد السوفيتي، بل وامتداد لما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد أن ألحق الاتحاد السوفيتي بالنازية القديمة هزيمة نكراء. وليست كل الإجراءات “السياسية” للاتحاد الأوروبي، ومحاولات تزييف التاريخ، والمساواة بين النازية والشيوعية، وإزالة النصب التذكارية، وإهانة ذكرى أبطال الحرب العالمية الثانية، سوى إعادة تأهيل للنازية من جديد، تتوّجه تلك الحرب الشعواء الاقتصادية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والفنية ضد كل ما هو روسي، وما نراه يستشري في أوروبا كالنار في الهشيم من المزاج العنصري المناهض للروس “الروسوفوبيا”.
لا يوجد فرق ما بين فاشية هتلر، وبين ما يجري اليوم من دعم والدفاع عن الفاشية الصهيونية في أوكرانيا وإسرائيل، وليس هناك فرق بين مخططات “البنتاغون” لاستخدام أوكرانيا لتكون أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في شرق أوروبا لتهديد الأمن القومي الروسي، بعد المخططات الأمريكية لإغلاق البحر الأسود على روسيا من خلال السيطرة على سيفاستوبول في 2014، وهي المخططات التي أفشلتها روسيا باستعادتها لشبه جزيرة القرم، وبين استخدام “البنتاغون” لإسرائيل للهيمنة على العالم العربي والشرق الأوسط.
وأمام تحقيق أهداف تلك الفاشية والنازية الجديدة خلع الغرب برقع الحياء، ولم يعد هناك أي قوانين أو شرائع دولية يمكن العودة أو الاستناد إليها، والسبب في الهستيريا والجنون الذي نراه في الغرب الآن إنما يعود لإفساد روسيا لمخططات “البنتاغون”، وتدميرها، خلال الـ 48 ساعة الأولى من العملية العسكرية الروسية الخاصة، لمعظم منشآت البنى التحتية التي عكف “الناتو” على بنائها والاستثمار فيها خلال ثمان سنوات، عقب انقلاب عام 2014 في كييف، بما في ذلك المطارات ومنصات إطلاق الصواريخ المزودة برؤوس نووية وغيرها من المنشآت الهندسية العسكرية الأوكرانية، المصممة لتهديد الأمن القومي الروسي.
كذلك فمن بين مظاهر تأثير اللوبي الصهيوني الفاشي على صناع القرار في واشنطن ما صدر عن مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخرا من اقتراح غير ملزم، صوتت عليه غالبية أعضاء المجلس، يعارض الدخول في أي صفقة مع إيران تتطرق فقط إلى الملف النووي ورفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب. حيث يوجه الاقتراح أعضاء مجلس الشيوخ، ممن يتفاوضون بشأن مشروع القانون النهائي مع مجلس النواب، إلى “الإصرار” على أن يتضمن التشريع لغة تطالب أي اتفاقية أنشطة نووية مع إيران أحكاما، “تتناول النطاق الكامل لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، بما في ذلك الصواريخ والإرهاب والتهرب من العقوبات”، و”ألا ترفع أي عقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، ولا يلغى تصنيفه الإرهابي”.
هكذا تتحكم إسرائيل واللوبي الصهيوني في النظام العالمي المتهاوي، وهكذا يصبح أي من يتفوه بكلمة لا تروق لهم محل اتهام بـ “معاداة السامية” على الفور وفي التو واللحظة، بينما يتهمون كل من يختلف معهم بالدكتاتورية والفاشية ويطردونه من “جنة الديمقراطية”، حيث تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية صكوك تلك الجنة، فتمنحها لمن تشاء، وتمنعها عمن تشاء.
لكن أيام ذلك النظام العالمي باتت معدودة، وبتحقيق روسيا لأهدافها في أوكرانيا، سيستيقظ الأوروبيون على واقع جديد، يكشف لهم فساد وهشاشة أنظمتهم السياسية، الأمر الذي ربما سوف يدفعهم إلى إعادة النظر في المفاهيم والأيديولوجيات والعلاقات المتشابكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وربما يؤدي ذلك إلى نظام عالمي جديد، بعدما أصبح النظام العالمي الراهن، نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، نظاما انتقائيا، يعاني من هيمنة بعض الأطراف، ومن أوهام استثنائية وتفوق البعض، بل وحقهم في تقرير مصير بقية العالم، وبعدما عجز ويعجز هذا النظام عن تحقيق الاستقرار والأمن لجميع دول العالم على حد سواء.