قضيت نسبة كبيرة من رحلتى الدبلوماسية والسياسية ممارسا ومتابعا للتطورات الدولية، مؤمنا بأن منظومة الأمم المتحدة، وميثاقها ومؤسساتها، التى أنشئت أساسًا بعد الحرب العالمية الثانية من أجل منع تكرار الحروب العظمى، هى أفضل السبل المتاحة وأكثرهم مراعاة للمصلحة العامة للمجتمع الدولى، ومقنعا بأن العلاقات والترتيبات متعددة الأطراف هى الأكثر عدالة مقارنة بالعلاقات الثنائية؛ لأنها تراعى مصالح العديد من الدول، وتوفر للدول المتوسطة والصغيرة ساحة أكثر توازنا لأنها تجمع أكثر من دولة وتستند إلى إطار وقواعد وقوانين عامة، مما يعالج جزئيا التوازنات المخلة لصالح الدول الكبرى والأكثر ثراء فى التعاملات الثنائية، ولذا فضلتها رغم ما يصاحبها من صعوبات إدارية مرتبطة بكثرة المشاركين وتنوع المصالح.
وكنت على يقين دائما أن أعمال تلك المؤسسات متعددة الأطراف تتأثر بتنامى أو تدهور وتوتر العلاقات بين الدول، وإن كنت أختلف جوهريا مع الذين يرون أن هذه التوترات مبرر مقبول لتباطؤ أو تعثر المنظمات متعددة الأطراف فى التعامل مع الأحداث الجسام، وذريعة لعدم المبادرة والتحرك، بل العكس هو الصحيح ومهام ومسئوليات تلك المنظمات أو المؤسسات تزداد وتتضاعف أهميته كلما اشتدّت الأزمات والصدامات.
وأؤمن بأن رؤساء المنظمات متعددة الأطراف يتحملون مسئولية جسيمة وسامية، فى رفع راية المنظمة والتمسك بأهدافها، فى أفضل الظروف وفى أحلكها وأصعبها، منطلقا من أن مواثيق المنظمات وقواعد عمل المنظمة الأم الحاكمة وهى الأمم المتحدة، تحدد القواعد العامة للعلاقات الدولية، وتعطى لرئيسها وهو سكرتير عام الأمم المتحدة مساحة للحركة والمبادرة.
وقد شهدنا العديد من الاقتراحات تقدم ممن تولوا هذا المنصب فى بداية كل دورة سنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى قبل اتفاق الدول حولها وإصدار قرارات من هيئات المنظمة بشأنها، علما أن السكرتير العام يتابع هذه المبادرات بجهود دبلوماسية بعد ذلك سعيا لتبنى أكبر عدد من الدول مبادراته ليتسنى إصدار قرارات تنفيذية من المؤسسات بشأنها.
هذا ويتجاوز دور السكرتير العام مجرد طرح هذه المبادرات، ليشمل القضايا والأحداث السياسية الحساسة والخطيرة؛ حيث ترخص له المادة ٩٩ من ميثاق الأمم المتحدة طرح القضايا على مجلس الأمن التى يرى أنها تحمل مخاطر على الأمن والسلم الدوليين.
أى أن السكرتير العام ورؤساء المنظمات المماثلة من حقهم بل من واجبهم المبادرة وتقديم الاقتراحات حسب تقديرهم لأهمية وخطورة الأمور، باعتبارهم مفوضين من الأعضاء نحو تحقيق أهداف المنظمات، ويجب أن تكون لتلك القيادات الشجاعة والحكمة للتصدى للأحداث والتحرك منفردا حتى قبل التشاور مع الأعضاء إذا لزم الأمر ذلك.
وأتذكر أننى تابعت عمل أنطونيو جيتيريز سكرتير عام الأمم المتحدة الحالى فى مناصبه السابقة بالمنظمة، واهتممت بما قاله لى شخصيا خلال حملته الانتخابية لولايته الأولى، خاصة ما شرحه عن الأولوية التى يعطيها لتفعيل دور الأمم المتحدة السياسى لحل المنازعات واهتمامه بتطوير المنظومة الدولية لتكون أكثر عدالة ومراعاة لمصالح كل دول العالم.
ومع انتخاب جيتيريز كنت متطلعا لرؤية السكرتير العام يتحرك على غرار من تحملوا هذه المسئولية فى العقود الأولى للمنظمة الدولية، وعلى رأسهم تريجفى لى وداج همرشولد، لقناعتى وإيمانى أن دور رؤساء المنظمات متعددة الأطراف ليس فى إدارة المنظمات فحسب، وإنما فى توجيه الدفة لتأمين التزام أعضائها بتحقيق أهدافها السامية واحترامهم لقواعدها وممارساتها، أى أن السكرتير العام يعتبر ضمير العالم وقلبه النابض، وتقع عليه مسئوليات فريدة لأنه الممثل الأول للمجتمع الدولى، ويتحمل أمانة المصلحة العامة للمجتمع الدولى بأكمله، ولديه الحنكة السياسية للتعامل مع دول لها توجهات ومصالح مختلفة بغية إيلاء أهداف المنظمة الأولية، والشجاعة والجرأة لتصحيح المسار كلما جنحت الدول أو المنظمة ذاتها نحو سبيل غير مألوف أو غير منضبط.
من هذا المنطلق رأيت دائمًا أن تكون القدرة والاستعداد على أخذ المبادرة الرشيدة من أهم صفات من يتولى هذه المناصب، وهو ما جعلنى أكتب أكثر من مرة فى الماضى منتقدا سكرتير عام الأمم المتحدة أنطونيو جيتيريز صراحة وبشدة، نظرا لتركيزه على القضايا الإنسانية والاجتماعية وعدم انغماسه شخصيا فى القضايا السياسية إلا فى أقل الحدود، وتجنب اتخاذ مواقف واضحة وحاسمة مفضلا المواءمات غير المكلفة، والتى لا تترجم إلى أفعال.
وأعتقد أننى كنت محقا فى انتقاداتى القاسية حينذاك، وإنما أكتب اليوم بنفس الموضوعية والصراحة، لأعطى كل ذى حق حقه، وأكتب اليوم لأسجل احترامى وتقديرى المواقف الواضحة والتصريحات القوية والشجاعة التى اتخذها السكرتير العام بالنسبة للأوضاع فى غزة.
فمنذ البداية حتى عندما ندد السكرتير العام باستخدام العنف، لم يغفل الإشارة إلى أن أحداث ٧ أكتوبر كانت لحظة فى سياق معاناة طويلة للشعب الفلسطينى تحت احتلال دام أكثر من سبعة عقود، ولم يتراجع عن موقفه أمام انتقادات باطلة وضغوط شديدة من إسرائيل وآخرين، واستمر على مواقفه وتصريحاته الواضحة والقوية مطالبا بوقف إطلاق النار الفورى، ومبرزاالمعاناة الشديدة التى يتعرض لها الفلسطينيون بالقطاع، ومشددًا على أن المجاعات غير الإنسانية الوحشية تخالف تماما عن قواعد القانون الدولى الإنسانى، فضلاً عن أنه قدم كل الدعم إلى مؤسسات الأمم المتحدة العاملة فى القطاع فى ظروف غير آمنة ومستقرة.
وزاد من وضوح مواقفه تكرار مطالبته الصريحة والملحة بوقف إطلاق النار، حتى عندما تعثر مجلس الأمن طوال أشهر عديدة فى إصدار قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار، ولم يتردد فى كل ذلك رغم اضطراب المجتمع الدولى وتوتر العلاقات بين العديد من الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، كما قام شخصيا بزيارة معبر رفح مرتين لتسليط الأضواء على الأحداث والمشاكل، والتحذير من مغبة شن إسرائيل للمزيد من العمليات العسكرية فى رفح، ولحث المجتمع الدولى على توفير أكبر قدر من المساعدات الإنسانية، ملحا ومكررا أن تلك المساعدات لن تصل إلى المواطنين فى مختلف أنحاء القطاع إلا بوقف إطلاق النار.
كرر كل هذه المواقف والزيارات والتصريحات رغم عدم انتمائه للعالم العربى أو الشرق أوسطى، ملتزما فى ذلك بالمسئوليات الرئيسية للأمم المتحدة ومقدرا بشكل سليم بمسئوليات ودور من يتولى قيادة المنظمة الدولية، وهو ما أهنئه وأشكره عليه، وأدعو الجميع اعتباره موقفا يحتذى به.