يضع الفلسطينيّ أبو أشرف غبن، يديه على رأسه المطأطئة من شدّة الحزن والتعب بعدما تعثّرت جهوده في توفير مساحة صغيرة لنزوح عائلته وثلاث عائلات أخرى خرجت معه من مركز إيواء في وسط مدينة رفح واتّجهت إلى مواصي خان يونس.
تتناثر أمتعة العائلات على قارعة الطريق الساحليّ الرئيس الذي حطّوا عليه رحالَهم بعد يومٍ شاقٍ قضوه في تجهيز مستلزماتهم ونقلها على متن شاحنة تقاسموا أجرتها لتخفيف تكاليف النزوح الجديد، بحثا عن النجاة من الاجتياح الإسرائيلي لشرق رفح.
يلهو الأطفال بين الحقائِب والأكياس والأغطية المُلقاة على الأرض، بينما تُلاحقهم نظرات أمّهاتهم خشية تعرّضهم لأيّ أذى حال اقترابهم من الطريق المزدحمة بالمركبات والمارّة، بينما ينطلق آباؤهم في محيط المنطقة للبحث من جديد عن خيمة يأوون إليها أو مكانٍ يبيتون فيه ولو في العراء، لكن دون جدوى.
يدبّ اليأسُ في نفوس العائلات الأربعة، ويسيطر عليهم بعدما أوشَكت شمس النهار أن تأفل دون وجود أيّ فرصة في الأفق للانتقال إلى مكان آخر، ليس لصعوبة إيجاد شاحنة تقلّهم من جديد فحسب، وإنمّا أيضا لأنّهم لا يملُكون تكاليف النقل.
العائلات التّي نزحت من مدرسة القدس المخصّصة لإيواء النازحين وسط رفح هربا من القصف الإسرائيلي بعد رحلة طويلة تنقّلت خلالها مرّات عديدة منذ نزوحها الأوّل من مدينة غزة، تُوقن أنّها لن تجد مأوى يحجبها عن عيون المارّة، وستبيت ليلتها هذه في الشارع أو ربما ليال أخرى قادمة.
* النوم على قارعة الطريق
يعمَد غبن، البالغ من العمر 50 عاما، إلى تهيئة العائلات للمبيت على قارعة الطريق دون فراش أو أغطية أو حتّى إمكانيّة لتوفير الطعام والمياه أو مكان لقضاء الحاجة، فضلا عن عدم وجود ماء حتّى لأغراض النظافة الشخصيّة.
يعتبر الرجل، الذي أعياه النزوح وبدا الوهَن ظاهرا على جسدِه وملامح وجهِه، أنّهم يعيشون أسوأ كابوس يُمكن أن يتوقّعه الإنسان أو يمرّ به في حياته “حين تجد أطفالك في الشارع جوعى وعطشى بلا مكان يؤويهم”.
ويقول إنّهم فرّوا جميعا من منطقة خارج مواقع الاجتياح الإسرائيلي، لكنها ملاصقة وخطيرة للغاية جراء وصول القصف والرصاص إليها.
يُبيّن أنّه لن يترك أبناءه يموتون أمام عينيه وسيواصل محاولاته المستميتة لإنقاذهم بكلّ الوسائل الممكنة، معتبرا أنّه خرج من بيته منذ بداية الحرب بحثا عن الأمان ولن يتردد في التوجّه لأيّ مكانٍ لتحقيق ذلك، مهما كانت الصعوبات.
ويقول مواريا وجهه قليلا لإخفاء دموعه “بعد كل هذه الشهور من عذابات النزوح والتنقّلات، لن أستسلم؛ وسأبحث عن أيّ مكان لإنقاذ أبنائي وتوفير مأوى لهم. صحيح أننا نبيت ليلتنا هذه على الطريق، ولكن هي أهون من الموت تحت الصواريخ”.
يضيف: “كنّا ننزح في مدرسة، وليس لدينا أيّ خيمة أو عريشٍ أو مالٍ لشراء مستلزمات ذلك؛ ولا أعرف كيف سأتدبّر أمرنا، لكن ما أعرفه أنّي سأقاتل حتى الرمق الأخير لتنجو عائلتي. ليس أمامنا سبيل آخر”.
يتساءل غبن بغضب شديد “أين الجهات المحليّة لترشدنا لأماكن النزوح؟ أيُعقل أن نبقى نهيم على وجوهنا دون أيّ مساعدة؟ أهكذا نُترَك لمواجهة مصيرنا دون أيّ مساندة؟ أي جبهة داخليّة متينة يتحدّثون عنها ونحن في العراء؟”
تستمع النسوة لكلمات الرجل الموجعة وصرخاته المستمرة، فتنزوي بعضنهن للبكاء وهنّ يحتضنّ أطفالهنّ الذين يبدو عليهم الضعف والوهن، خصوصا وأنّ بعضهم يُعانون من إعاقات سمعيّة وأمراض سوء التغذية ونحوها، ويرفضن الحديث بعدما انهارت بعضهنّ من البكاء والحُزن.
يتكرّر مشهد المبيت في العراء بأماكن عديدة لعائلات تقطّعت بها السبل وهي تنزح من رفح إلى مواصي خان يونس الساحليّة أو مدينة خان يونس ذاتها، التي وسّع فيها الجيش الإسرائيلي المساحة المصنّفة بالآمنة حتى مركزها أو نحو دير البلح وسط القطاع.
* وضع ليس بالأفضل
وإذا كان هذا هو الحال مع العائلات التي تبيت في الشارع دون تمكّنها من توفير مساحة صغيرة لنزوحها أو خيمة تؤويها، فإنّ العائلات التي حصلت على ذلك ليست بأفضل حالٍ، خصوصا أنّ بعضها ينزح على شاطئ البحر مباشرة أو في مناطق زراعيّة وحتى على كُثبان رمليّة تفتقر لأدنى مقوّمات الحياة، ومن بينها مصادر المياه.
لم تجد عائلة الشاب عبد الله الخيسي وعائلات أشقائه وأخواله وأعمامه مساحةً كافيةً لتنزح إليها وتكون إلى جوار بعضها كما كانت منذ النزوح الأوّل قبل خمسة أشهر، إلا على شاطئ البحر مباشرة؛ لكنّهم سيضطّرون لقضاء ليلتهم الأولى في العراء لعدم امتلاكهم الخيام أو مستلزمات العُرُش، كونهم كانوا ينزحون في مدرسة إيواء في حيّ السلام برفح لا في خيام.
الخيسي، وهو شابّ يبلُغ من العمر 28 عاما وأب لثلاثة أطفال أكبرهم الطفلة شمس (ثمانية أعوام) ومحمد الذي يصغرها بخمس سنوات وياسر الذي وُلِد قبل شهرين فقط، يعتبر أنهم من المحظوظين كونهم وجدوا مساحةً كافيةً للنزوح على عكس عائلات كثيرة ما زالت بلا مأوى.
يصف الخيسي أوقاتهم الأخيرة التي قضوْها في مركز الإيواء شرق رفح بأنّها “ساعات عصيبة تحت القصف الإسرائيلي العنيف والأحزمة الناريّة المُرعبة ودويّ الانفجارات الذي لا ينتهي”. ولذلك، فإنه يرى أنّ قسوة منطقة النزوح الجديدة، التي لا تتوفر فيها أيّ معالم للحياة سوى وجود البشر، أهوَن بكثير من مشاهدة أبنائه قتلى أو أشلاء أو مصابين كما حدث مع آخرين.
يُنزل الشاب وأشقاؤه أمتعتهم من الشاحنة التي أقلّتهم من رفح إلى منطقة قريبة من دير البلح على عجل، ليتمكّنوا من ترتيبها قبل حلول الظلام ومحاولة تدبّر أمر مبيتهم دون نصب خيمة أو توفير مكان مخصّص لقضاء الحاجة أو الحصول حتّى على مياه للشرب.
وقال: “كنّا نعتقد أنّ رفح ستكون رحلة النزوح الأخيرة؛ لكنّنا ننتقل منها اليوم، ولا يوجد ضمان للوقوف عند هذا الحد… هل سنظلّ ننزح داخل القطاع من مكان إلى آخر، أم سنضطّر للمغادرة خارجه؟ كلّ عذاب داخل وطننا أهون بكثير من اللجوء لغيره”.