أصعب أنواع الرحيل رحيل البقاء.. وأغلى الراحلين الباقون.. من رحلوا وأخذوا نفوسنا معهم.. عام مضى على رحيل الدكتور محمود بكري.. ما أسرع مرور الأيام.. وما أبطأ أيام الفراق وآلالمها..
في مرور الذكرى الأولى لرحيل الغائب الحاضر محمود بكري.. استعيد كلمات خطها دمع العين قبل دواة الحبر.. كلمات كتبت منذ عام في عمر رحيل البقاء.. وما زالت حروفها تسح دموعًا على رحيل محمود بكري.. من رحل وبقي وآبى إلا أن يأخذ معه نفوسنا أو كلها.. رحم الله محمود بكري استعيدها معكم:
محمود بكري.. مَن بقي ورحلنا
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى.. أن الكواكب في التراب تغور
بيتُ شعر من رائية «إني لأعلم واللبيب خبير» لـ«أبي الطيب المتنبي».. استحضرتُ به أربعينية الراحل الحاضر محمود بكري.. وكأن «أبا الطيب» سكن أرواحنا ونطق بما نشعره.
تغور النجوم والشموس والكواكب.. بعضها لا يعود أبدًا وبعضها يعود ثم تغور مرة أخرى.
وبعض الكواكب لا تغور.. ومنها «كوكب» جنوبي.. أخًا لـ«كوكب» جنوبي.. في استدارة وجهه سماحة «البدر المنير» في ليالٍ ظلماء.. ومن جبال الجنوب المحيطة ببلاده حنوًّا.. قُدَّت عزيمته وإصراره.. ومن دفء شمس الجنوب استمد حنوه وحنانه.. ومن سريان النيل فيض كرمه وعطائه. غيض من فيض نبل محتده وكرم أخلاقه.. ولكنه غيض يفيض على زمن قلت أخلاقه.. قيم الأخلاق جعلها شاغله في حياته وفِعاله.. نادى بها في كتاباته منها مثالاً لا حصرًا بُضيع من كتاباته: «ماذا جرى للدنيا – ماذا حدث للدنيا – صور من الحياة – دروس من الحياة – عدالة السماء» وغيرها الكثير.. كلمات كتبها الراحل الباقي من فيض روحه.. عبَّرت عن حياته وأخلاقياتها.. وكرمه ونجده.
لم تكن حياة محمود بكري وردية.. فيها «ابتلاء» واجهه الراحل بعزيمة جبال الجنوب التي قدَّ علياؤها شموخَ إصراره.. فأخرج بإرادته من «المِحن» «مِنحًا».. صورة من بعض ذلك في متتاليته المكتوبة «أيام في الزنزانة».
لم تكن حياة الراحل وردية.. غير أنه حوَّل كل حياة من حوله لـ«حياة وردية».. افْتُقد بعضها بغيابه.. وبقى كثُيروها بإصراره.
حياة تستحق أن يُخلد إبداعها في مكتبتنا العربية فيُرى في مكتبة كل بيت «الأعمال الكاملة للراحل الباقي محمود بكري».
يعلم أهلنا في الجنوب.. وأهلنا في حلوان.. مَن هو محمود بكري.. ومَن هو مصطفى بكري.. وما يفعلون.. ولسنا بصدد أشياء يراها صاحباها «فِعل يمينه لا تعلم به شماله».
صُنِّف الشقيقان «محمود ومصطفى» فترة أنهما معارضان.. وأخرى أنهما مؤيدان.. والحق غير ذلك فلا الراحل الباقي ولا روحه الباقية جسدًا وفعلاً في أخيه الأكبر معارضان ولا مؤيدان.
إنهما «محبَّان متماهيان».. متماهيان في حب الوطن.. يدوران مع حب بلادهما كدوران العلة مع المعلول وجودًا وعدمًا.. فأينما كان حب الوطن.. وجدتهما لا يضرهما مَن خذلهما ولا يؤذيهما مَن خالفهما.. ولا يسوؤهما مَن باغضهما.. فهما أحبا للوطن وفعلا للوطن وامتنعا عن الوطن.. يذوبان في عشقه.. كذوبان ماء النيل الخالد جريا على ضفاف “المعنَّى” في شقوق الأرض اليابسة فيُحيّها.. وكامتزاج أشعة الشمس في أوراق الشجر فتنبت ثمارًا.. ومن ثمارهما يُعرفان.. وثمارهما حب الوطن.
هما.. «البكريان».. يُرى «مصطفى» فيُرى «محمود».. يُرى «محمود» فيُرى «مصطفى».. ويُرى الاثنان فيُرى «واحدٌ».. ويُرى واحدٌ فيُرى «الاثنان».. ويُرى «مصطفى» بعد رحيل شقيقه الباقي فيُرى في القلب «محمود».. وحال شقيقه:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا.. نحن روحان حلاَّ بدنا
نحن مذ كنا على عهد الهوى.. تُضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتني أبصرتهُ.. وإذا أبصرتهُ أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا.. لو ترانا لم تفرِّق بيننا
روحه روحي وروحي روحه.. من أي روحين حلّت بدنا
أربعون يومًا مرت كاملة وكأنها “دهر” مُذ رحل الدكتور محمود بكري.. نسائم رحمات الله عليه.. لكنه “باقٍ” ما حق له البقاء.. باقٍ في آله.. باقٍ في فِعاله.. باقٍ فينا.
فصدق فيه قول «النمري»
ردت صنائعُه إليه حياته.. فكأنه من نشرها منشورُ
صبَّر الله مصطفى بكري وآل بكري
ورحم الله مَن كان صدقًا لقول مالئ الدنيا وشاغل الناس
كفل الثناءُ له بِرَدِّ حياتهِ.. لمَّا انطوى فكأنه منشورُ
رحم الله الدكتور محمود بكري.. إذ نرثيه نرثى أنفسنا فإنه برحيله بقي.. ورحلنا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت.. لها المنايا إلى أرواحنا سُبلا