فكان الموت هو الحياة الأبدية بالنسبة لهم “حياة البعث والخلود”، وأسمى ما كانوا يتوقون إليه.
مما دفعهم نحو البحث عن طريقة تحفظ أجسادهم كما هي حتى يبعثون عليها، كما قاموا بدفن متعلقاتهم معهم حتى يقومون باستخدامها حينما يبعثون.
فاشتهر بالتحنيط القدماء المصريين والذين بدأوا بتحنيط جثثهم سنة 4300ق.م تقريباً.
ولكن لم يكن المصريون القدماء أول من حنطوا موتاهم!
فمنذ حوالي 7000سنة ق.م قبل قيام المصريين القدماء كان يعيش شعب “تشينتشورو” بجنوب بيرو وشمال تشيلي، وكانوا يحنطون موتاهم أيضاً.
ثم تطورت عملية التحنيط عند الفراعنة بداية من دفن موتاهم في رمال الصحراء الجافة حتى تمتص السوائل من الجسم وتجففه، لحفظ الجلد والأظافر والشعر، بعيداً عن النيل حيث الزراعة.
ثم تطور فن التحنيط، فكانت العملية مكلفة جداً لذلك كانت مخصصة فقط للأثرياء في المجتمع المصري القديم وخاصة الملوك والكهنة، وكانت تستغرق هذه العملية ما يقارب من حوالي سبعون يوماً.
وكانوا يستخدمون الأدوات الآتية:
آلات حادة، زيوت طبيعية، ملح الناطرون، كتان، شمع العسل، روائح عطرية، اكسيد الحديد الأحمر، صمغ نباتي.
وكما ذكر المؤرخ الإغريقي “هيرودوت” الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، بعض خطوات أو طرق التحنيط عند القدماء المصريين، وهي كالآتي:
يقوم الكهنة ومعهم بعض رفاقهم بدق مسمار طويل في الجمجمة بشكل منضبط حتى يصل إلى المخ الذي يتم تفتيت جزء منه ثم يسحب بقاياه من التجويف الأنفي والفتحة التي أحدثها المسمار، وذلك لأن المخ هو أول اعضاء الجسم التي تتحلل لفقدان اتصاله العصبي وموت خلاياه، ثم يأتي دور باقي الأعضاء، فيتم نزع الكبد والطحال والأمعاء وغيرهم من الأعضاء ذات الإنزيمات الهاضمة التي تتسبب في تآكل الجسد، وبذلك لا يبقى في الجثة اي مواد رخوة تتعفن بالبكتيريا.
ولكن ذلك دون الإقتراب من القلب لأهميته الروحية وإعتقادهم بكونه المحرك الأساسي في العالم الآخر.
ويتم وضع الأعضاء المنزوعة من الجثة بداخل حافظات جيرية تسمى “الأواني الكانوبية”، لكل عضو منهم إناء كانوبي معين من الأربعة أواني، التي اتخذت في الأسرة التاسعة عشر صور ابناء حورس الأربعة كحراس للأعضاء داخل الأواني.
فكان ‘حابي’ لحراسة الرئتين و’امستي’ لحراسة الكبد و’دوموتيف’ لحراسة المعدة و’كبحسنوف’ لحراسة الأمعاء، وتملأ الأواني بمواد لتحافظ عليهم من التحلل وذلك لاعتقادهم الراسخ في احتياج الجثة لهذه الأعضاء عند البعث فتوضع ملازمة لها في القبر.
وبعد ذلك يَملأ تجويف الصدر والبطن بمحلول النطرون ولفائف الكتان المشبعة بالروائح العطرية، التي لا تساعد في التحلل والتعفن بالبكتيريا، ثم يجفف الجسد بوضعه في ملح النطرون الجاف لاستخراج كل ذرة مياه موجودة فيه واستخلاص الدهون وتجفيف الأنسجة تجفيفاً كاملاً (ويستغرق ذلك ما يقارب من شهر تقريباً)، ثم تطلوا بعد ذلك الجثة بالصمغ النباتي لسد جميع مسامات البشرة وحتى يكون عازلاً للرطوبة وطارداً للأحياء الدقيقة والحشرات في مختلف الظروف، حتى لو تركت الجثة في الماء أو في العراء.
وفي أحد المراحل المتقدمة من الدولة الفرعونية الحديثة، وضعت الرمال تحت الجلد بين طبقة العضلات والجلد عن طريق فتحات في مختلف أنحاء الجثة وبذلك لكي تبدو الأطراف ممتلئة ولا يظهر عليها أي ترهل في الجلد، كما تم استعمال شمع العسل لإغلاق الأنف والعينين والفم وشق البطن، وتلوين الشفاه والخدود بمستحضرات تجميل، ثم لف المومياء بأربطة كتانية كثيرة قد تبلغ مئات الأمتار مدهونة بالصمغ النباتي مطلية بأكاسيد الحديد الأحمر (الغراء الأحمر) مضاف لها شمع العسل كمادة لاصقة في آخر السبعين يوماً التي تتم فيها عملية التحنيط.
لتبقى محنطاتهم دائمة الوجود معهم وبينهم ووسطهم يتابعونها وقتما شاءوا، ولتظل علامة بارزة لتقدمهم العلمي والفني، خالدة على مر العصور والأزمنة، فهي علامة ثابتة ومؤكدة لحضارة هؤلاء الذين ننتسب لهم ونحن فخورين بهم، ولعل أكبر دليل على ذلك أنها من ضمن الشواهد الأثرية التي تشد الجميع من مختلف ثقافاتهم واديانهم وبلدانهم، فأصبحت تضخ الآثار المصرية بكميات كبيرة تثري مصرنا الحبيبة بالثراء الأثري الذي يجعل مصر من أكبر بلدان العالم ثراءًا بتلك الآثار.
#بقلم_منة_الهلالي