– مأساة الشعب الفلسطينى هى فاتورة مؤجلة على شعوب أوروبا كان يجب أن تدفعها لليهود
الحروب العالمية على رغم أنها قد تبدو محدودة فى البداية، إلا أنها حين ترتبط بتوجهات واسعة فإن الأمر يختلف ويصبح ضروريًا أن يكون مرتبطًا بالخيار بين الحياة المنتصرة والهزيمة المميتة، وعلى ذلك فإننا يمكن أن نقول باطمئنان شديد إن الخلافات الإقليمية هى قضايا حدود، بينما الصراعات الدولية هى قضايا وجود! وليس ذلك أمرًا جديدًا، فإذا تأملنا النزاع المسلح القائم حاليًا بين روسيا وأوكرانيا، فسنكتشف أنه نزاع على أقاليم أرضية أو ممرات بحرية أو مدن تاريخية يسعى كل طرف إلى إبراز حقه فيها.
وهنا لا بد من أن نعترف أن مائدة المفاوضات تتحكم بصورة كبيرة فيما يدور ولسنا نعرف صدامًا بين دول الجوار فى منطقة معينة إلا والتاريخ والجغرافيا يقومان بدور حاكم فى مصير تلك المواجهات، فالصراع العربى – الإسرائيلى يبدو لى شخصيًا صراعًا من نوع فريد فيه مظاهر النوعين معًا، فالسطو الصهيونى على الأراضى العربية هو جزء من أطماع تاريخية من الغرب تجاه الشرق، بل هو امتداد لمغامرات العصور الوسطى حين اجتمعت الممالك الأوروبية فى حملات عسكرية متتالية لغزو الأماكن المقدسة فى فلسطين والشام الكبير، وظلت مستمرة عشرات السنين حتى استرد العرب والمسلمون أرضهم السليبة وتغلبوا على أطماع الفرنجة الذين رفعوا الصليب شعارًا ظاهريًا، بينما الأهداف الباطنية هى أطماع استعمارية بالدرجة الأولى.
وما زالت الذاكرة العربية والإسلامية أيضًا تتذكر الجذور القديمة للنزاع العربى – الإسرائيلى الذى لم يكُن يومًا مسألة حدود، لكنه كان دائمًا قضية وجود كما ذكرنا من قبل، ويهمنى هنا أن أسجل على هوامش هذه المقال بعض الملاحظات، ومن أبرزها:
أولًا: إن الشرق، والشرق الأوسط تحديدًا، هو مهبط الديانات السماوية الثلاث وهو ملتقى العقائد الإبراهيمية التى تجذر وجودها فى هذه المنطقة من العالم، وبذلك فإنه هو ذاته الشرق بسحره وثقافاته وأساطيره، ما شكل جزءًا كبيرًا من الخيال الغربى عند التفكير فى منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا، ونحن نتذكر دائمًا أن الغرب مدين للشرق فى البدايات، بينما دفع الشرق كل الأثمان فى النهايات!
ثانيًا: إن ظاهرة العداء للسامية هى إقحام جديد لقضية مفتعلة يراد بها تكريس المشاعر ضد كل من يرفع صوته برفض الدعاوى الصهيونية أو التطلعات الإسرائيلية، وبدأ الأمر بالحديث عن الاضطهاد الأوروبى لليهود وظهرت المسألة اليهودية على السطح، خصوصًا عندما اتهم الألمان مواطنيهم من اليهود الأوروبيين بأنهم وراء هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى، واستند الرايخ الثالث بشعاراته النازية إلى مفهوم جديد يوجه اتهامًا مباشرًا لليهود فى عدائهم للجنس الآرى، واستخدمت ألمانيا ذلك الشعور المتصاعد كلما اقتربت الحرب العالمية الثانية لكى تقوم بعملية إدانة لليهود وصلت إلى حد الهولوكوست، ونحن لا ننكره عليهم لكننا لم نشارك فيه، ولم نكُن طرفًا لا من بعيد ولا من قريب، فلماذا يدفع الفلسطينيون الأبرياء ضريبة فى هذا الشأن الذى لا يقبله أحد ولا يرضاه عاقل.
مأساة الشعب الفلسطينى هى فاتورة مؤجلة على شعوب أوروبا كان يجب أن تدفعها لليهود إن شاؤوا ولكنها لم تكُن أبدًا فاتورة عربية، ولكن بريطانيا وحلفاءها فى مطلع القرن الماضى نجحوا فى تحويل دفة الأمور إلى عداء شديد للعرب واتهامات متصاعدة انتقلت من العداء لليهود إلى ما سموه «العداء للسامية»، متناسين أن العرب هم من نسل سام بن نوح أى أنهم ساميون أيضًا، ولكن تلك هى قدرة الصناعة الإعلامية اليهودية التى نجحت منذ مطلع القرن الماضى فى غرس أفكار جديدة جرى حقنها فى إطار شعور عام يسعى إلى تشويه الإسلام وخلط الأوراق وابتداع أفكار خبيثة، يمكن تلخيص أطرافها فى تعبير الـ«إسلاموفوبيا».
ونجح اليهود فى تحويل الصراع السياسى إلى عداء حضارى وثقافى تعانيه المنطقة العربية كما لم تعانِ قبل، بل إننى أزعم أن ما جرى منذ السابع من أكتوبر عام 2023 حتى الآن إنما هو تعبير حقيقى عن روح الانتقام الدفين لدى الحركة الصهيونية التى مارست التهجير إلى الأراضى الفلسطينية المحتلة واغتصبت حقوق شعبها، وتمكنت من غرس أفكار مشوهة فى العقل الغربى والشرقى أيضًا، ليكون ذلك مبررًا لها فى الاستمرار على الساحة لتحقيق أحلام راودت الآباء الكبار للحركة الصهيونية منذ القرن الـ19، وافتعال الأسباب لتأكيد أحقيتهم فى ما لا يملكون، حتى إن عبدالناصر وصف فى رسالته الشهيرة للرئيس الأميركى الراحل جون كينيدى وعد بلفور، الوزير البريطانى «إنه وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق».
ثالثًا: لقد استخدمت الحركة الصهيونية التفاوت الواضح بين الوافدين من مجتمعات أوروبية لغزو فلسطين تحت شعارات مقدسة فى محاولة لإبراز التفاوت الحضارى بينهم وبين العرب، ولقد كان العرب لأعوام طويلة يملكون الثروة، لكنهم لا يحوزون التكنولوجيا، ثم تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال، وأصبح للعرب دور بارز فى المجتمع الدولى المعاصر، وتمكنوا من فتح جسور للتواصل مع قوى أجنبية فى كل اتجاه، بل زاد الأمر عن ذلك أن العرب لم يخاصموا التكنولوجيا ولم ينفروا من علوم العصر، بل على العكس ازدادوا ارتباطًا بها وتفوقًا فيها، ولذلك تحول الصراع إلى نوع من المواجهة الحضارية التى لا تخفى على أحد. عندما بادرت أكبر دولة عربية إلى كسر الحاجز والدخول فى مشروع السلام بين العرب وإسرائيل، فإن ذلك استقبل فى البداية بحماسة إسرائيلية وحذر عربى، ولكنه تحول بعدها إلى دوافع ذاتية تدعو الإسرائيليين إلى التفكير فى ابتلاع المنطقة والسطو على مقدرات شعوبها فى ظل مجازر بشرية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا من قتل للأطفال وترويع للمدنيين وإهدار للدماء واعتداء على النساء وكبار السن واغتيال للقيادات وعدوان غير مسبوق على البشر والحجر.
إن كمية الصواريخ والقنابل التى أسقطت على شعب غزة، بل الأراضى الفلسطينية عمومًا تكاد تقترب من تلك التى أسقطت على المدن الأوروبية فى الحرب العالمية الثانية، والعالم يشاهد ذلك كله ويكتفى بالتصريحات الشفوية والعبارات الطيبة على رغم أننا لا ننكر أن الأوضاع تغيرت كثيرًا على المستوى الدولى، وأصبح هناك شعور عميق بضرورة وجود حل جذرى لذلك الصراع الطويل المزمن الذى يبدو بلا شك صراعًا وجوديًا وليس نزاعًا حدوديًا.
تلك قراءة مباشرة للأوضاع الحالية التى حولت السلام الهش إلى نزاع مسلح لأن نوايا أحد الطرفين وهو الطرف الإسرائيلى لم تكُن فى يوم من الأيام صادقة، بل هى نوع من اللف والدوران حول الأوضاع القائمة للوصول إلى نتائج تسعى إلى تحقيقها وتريد وجودها.
إننا نظن أن النزاعات المسلحة فى عالم اليوم وفى ظل التقدم التكنولوجى، خصوصًا فى صناعة السلاح ليست نزهة يمكن البدء بها والانتهاء منها، إذ إن الحرب هى قمة المأساة الإنسانية التى ليس فيها منتصر أو مهزوم، فالدول المتحاربة خاسرة كلها ولا يوجد فيها انتصار وانكسار، إنما الأمر برمته خراب ودمار وضياع وعدوان على الأجيال الجديدة وتحطيم لمعنويات الشباب وزرع للشكوك فى طريق المستقبل مهما صدقت النوايا على جانب واحد، ويظل الأمر معلقًا كما هو دائمًا، سيطرة أجنبية وافدة على أرض عربية وجيش احتلال يزرع القلق وينشر الخوف ويعتدى على كل المقدسات. دعنى أقولها صريحة، إن النزاع المسلح هو نتيجة طبيعية للسلام الهش الذى لم يقُم على قناعة كاملة لدى كل أطرافه.